الأربعاء، 12 يوليو 2017

(نقوش على جدار الذاكرة) شهادتي في مؤتمر إقليم شرق الدلتا الثقافي 2017

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقوش على جدار الذاكرة (شهادة الأديب مجدي شلبي)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعريف بأدب الشهادة:
قبل عرض ( شهادتي )، أرى أنه من الأوفق أن أشير إلى ما تعنيه كلمة ( شهادة ) من: إخبار المرء بما رأى والإقرار بما عَلِم، و الأصل في ( أدب الشهادة ) هو تضمين الأعمال الأدبية لشهادات، كما رأينا في ( الكوميديا الإنسانية ) لبلزاك و ( ثلاثية نجيب محفوظ ) و ( رأيت رام الله ) لمريد البرغوثي و ( الحرب والسلام ) لتلستوي؛ حيث تضمنت تلك الروايات شهادات، بانتقال النص من المساحة الفردية إلي الجماعية، و من الخاص إلي العام دون فصل بينهما.
و رغم أن ( أدب الشهادة ) لم يُعترف به بعد كجنس أدبي مستقل بذاته؛ رأينا احتفاء المؤتمرات الأدبية به، و حث الأدباء على الكتابة فيه، و لكونه أضحى نوعا من استعراض الأديب لمشواره الأدبي؛ فمن الطبيعي أن يرى البعض هذا الاستعراض مُشرعة نوافذه على حالة من النرجسية و عشق الذات، لكون الأديب أضحى شاهدا على نفسه، و من هنا تصبح شهادته تلك شهادة مجروحة، لا ترقى إلى مستوى الاعترافات الموثقة المرتبطة بأحداث عامة في كثير من الأحيان.
و رغم هذا كله ـ و كثير غيره ـ انتشر هذا النوع من الأدب ( أدب الشهادة ) جامعا بين السيرة الذاتية و اليوميات و التقرير الصحفي و كتابة التاريخ.
هذا الفن الأدبي المبتكر ـ شئنا أم أبينا، وافقنا أو اعترضنا ـ فرض وجوده، و أضحى له العديد من عشاقه و مريديه، الذين يقرأونه، أو الذين يكتبون فيه.
و عند هذه النقطة تحديدا؛ نرى ضرورة التأكيد على حقيقة أن المسيرة الأدبية دائمة التطور سواء كان هذا في الأسلوب بظهور مدارس أدبية جديدة، أو باستحداث أجناسٍ و فنون أدبية مبتكرة، و هو ما سيأتي ذكره عند الحديث القادم عن أجناس و فنون أدبية أخرى تلت ظهور ذلك الجنس الأدبي (أدب الشهادة )...
و لا شك أن من يملك حقيقة أكثر من امتلاكه رأيا؛ يكون من حقه أن يمُنح تلك الفرصة لتقرير شهادته، و استعراض جوانب من مسيرته الأدبية خطوة خطوة.

مقدمة
عند الحديث عن رحلة المرء في الحياة، تكون الحكمة هي الوسيلة و الهدف في ذات الوقت، بداية من يقظة الوعي و استدراك ما فات إما فخرا و اعتزازا، أو حسرة و ندما.
و لأن حياة كل منا مليئة بعديد من القصص و الحكايات، و المواقف و الأزمات؛ تتأرجح مشاعرنا بين الحزن و الفرح، الأمل و الألم، دون أن تتوقف تلك الحركة البندولية إلا بانقضاء الأجل و انتهاء حياة الإنسان...
و تتألق البراعة أثناء تلك الرحلة ـ قصرت أم طالت ـ في القدرة على اكتشاف تناقضات الواقع، من خلال رؤية مختلفة، ثم السعي لخلق مسارات جديدة تفتح الطريق أمام التغيير، بكل تبعاته، و أعبائه، و نتائجه أيضا، و حينئذ يتضح دور الإنسان في صناعة واقعه، و المدهش هنا أنه عندما ينجح في أداء هذا الدور؛ يُرجعه إلى قدراته و ذكائه و حكمته، و إذا أخفق يرجعه إلى القدر!. و أعترف أن تلك القاعدة المدهشة هي التي سأنطلق منها في سرد شهادتي الاجتماعية دون خجل أو وجل... موقنا بصدق بيتي الحكمة للمتنبي:
مشيناها خُطىً كتبت علينا... و من كُتِبَت عليه خطىً مشاها
و من كانت منيتُهُ بأرضٍ... فليسَ يموتُ في أرضٍ سواها
و لا شك أن هذا يحيلنا إلى قضية ( الجبر و الاختيار ) التي لا مجال هنا للخوض فيها، غير أن تواتر المصادفات في حياة الإنسان يجعلنا أكثر إيمانا بتلك القدرية...

المولد و النشأة
عند الحديث عن تاريخ ميلادي (24 مارس 1954) يتبادر إلى الأذهان حدث جلل في تاريخ ثورة 23 يوليو، و هو ما عُرف بـ( أزمة مارس 1954)، حين حدث خلاف بين مجلس قيادة الثورة و أول رئيس للجمهورية بعد الملكية اللواء/ محمد نجيب (19/2/1901ـ 28 /8/1984)...
بداية غير مبشرة لميلاد ارتبط بأزمة سياسية؛ و لأن "المصائب لا تأتي فرادى كالجواسيس، بل سرايا كالجيش..." (وليم شكسبير)؛ فقد واكبت تلك المصيبة العامة رفيقتها الأسرية، حيث كنت السادس في ترتيبي التنازلي بين الإخوة، هذا الترتيب التنازلي توافق أيضا مع حالة من التراجع المادي لأسرة كانت ميسورة.
كان الوالد مصورا فوتوغرافيا في مدينة المنصورة، و تيمنا بثورة يوليو 1952 أطلق على ستديو التصوير الخاص به ( ستديو نهضة مصر ) و كان هذا الاستديو يقع في أشهر شوارعها ( السكة الجديدة/ عمارة العمريطي) و لم يكن وقتها من ستديوهات تصوير في المنصورة  إلا ( ستديو إلياس كركور و ستديو العقاد ) في ذات الشارع، و ستديو هيلتون بشارع العباسي ( لصاحبه/ الحاج محمد عبد الرحمن )...
و من المنصورة تعود الأسرة القهقري إلى مدينة دكرنس ( مسقط رأس والدتي )، و منها إلى ( منية النصر ) مسقط رأس والدي، الذي أعزى هذا التنقل التنازلي وقتها إلى مقولة شهيرة كان يرددها: "شورة المرأة لو صحت بخراب سنة، و لو خابت بخراب العمر كله"!.
كانت والدتي ذات شخصية قوية، لديها قدر غير قليل من العلم و المعرفة، فضلا عما وفرته لها حياة الرفاهية في الطفولة و الصبا من ثقة و اعتزاز بالنفس؛ فقد كان والدها تاجرا كبيرا ( الحاج/ محمد العوضي )، الذي استطاع أن يحقق ثروات ضخمة امتلك من خلالها ( عزبة ) كاملة في زمام مدينة دكرنس، ما زالت تحمل اسمه حتى اليوم ( عزبة العوضي )، و أن يتزوج أكثر من مرة، سعيا وراء إنجاب وريث ذكر يحمل اسمه و يحافظ على ثروته؛ غير أن إرادة الله كانت فوق إرادته:
فأنجب من الزيجات الثلاث ست بنات: اثنتان تزوجتا و استقرتا في القاهرة، و اثنتان تزوجتا و استقرتا في منية النصر، و واحدة تزوجها عمدة نجير سابقا ( الحاج/ مصطفى بدوي ) و أخرى تزوجها ابن عمدة دكرنس ( الحاج/ محمد إبراهيم شبكة) و هو من استطاع أن يدير تلك العزية ( عزبة العوضي ) التي تقع بجوار أملاكهم الزراعية...
و قد كانت لنا زيارة سنوية إلى العزبة مستخدمين ( حنطور عم ماهر) ذهابا و عودة، ولم يبق من تلك الزيارات إلا الذكريات...
ففي ظل ظروف اقتصادية قاهرة؛ كانت والدتي تلجأ مضطرة من حين لآخر إلى بيع جزء وراء جزء من حصتها ( غير المعلومة ) من الأرض الزراعية لزوج شقيقتها ـ إلى أن أبلغها بنفاد نصيبها من العزبة ـ لتستطيع أن تقيم أود الأسرة و أن تحافظ ـ قدر الإمكان ـ على مستوى من الحياة الكريمة، التي جعلتنا أفضل حالا من المحيطين بنا من جيران في الحي المسمى ( عزبة أبو حلاوة )، حتى مع زيادة الأعباء بقدوم طفلين جديدين، و حدوث مشكلات في العمل بالنسبة لوالدي ( أرى أنه من الأوفق عدم الخوض في تفاصيلها المؤلمة ) و ما تبع ذلك من سعيه للعمل في بلاد الله لخلق الله ابتغاء للرزق...
و لعل القارئ الكريم يستوقفه إسم ( أبو حلاوة )؛ فيستعيد بذاكرته أحداث فيلم ( حسن و نعيمة ) الذي أعده عام 1959ـ عن قصة واقعية ـ إبن منية النصر الراحل/ عبد الرحمن الخميسي (1920 - 1987)، الذي اكتشف الفنانة/ سعاد حسني (1943 - 2001) و قدمها في هذا الفيلم الذي تم تصوير معظم أحداثه في منية النصر، و بعضها بجوار مقام الشيخ سيد أبو حلاوة، الذي ما زال يطلق اسمه على ذلك الحي لوقوع مقامه و مسجده فيه حتى الآن...
و من المؤلم أن أتذكر هنا ما كنا نتعرض له ونحن أطفالا صغارا، من بعض غلاظ القلوب، الذين كانوا يطردوننا من ذلك المسجد؛ فنخرج للصلاة على الأرض المجاورة؛ فتنهرنا الأمهات عن فعل ذلك كي لا تتسخ ثيابنا!...
في ذلك الحي الذي كنا نجاور فيه رفيق عمري سعد سامي إبراهيم و أسرته المسيحية، و يجمعنا بهم الحب و المودة و الألفة؛ حدثت واقعة اشتراكه معنا كأطفال في تقليد حركاتنا في الصلاة و ترديد بعض آيات القرآن، فكان ذلك سببا في انتقال هذه الأسرة الكريمة إلى مدينة دكرنس (حيث توجد كنيسة)؛ "ليعرف الأبناء دينهم" بحسب ما قالته خالتي ( بابينا ) وقتها و هي تودع والدتي و الدموع تنهمر من عيونهما، على وعد باستمرار العلاقة الطيبة بالتزاور بين العائلتين...
بعد هذا لم يستمر وجودنا طويلا في ذلك الحي؛ فانتقلنا من منزل إلى منزل في رحلات يشوبها عدم الاستقرار، و هو ما تنبهت إليه و اعترضت عليه عندما وصلت إلى سن المراهقة و التمرد؛ فكان التفكير في إبعادي هو وسيلتهم ـ تخفيفا للأعباء المعيشية التي أثقلت كاهل الأسرة، و تخلصا من هذا التمرد على الواقع بكل تفاصيله ـ فأرغموني على الانتقال إلى القاهرة و أنا بعد لم أنهي دراستي الثانوية
إلى القاهرة حيث يقيم ثلاثة أشقاء كبارا في شقة مكونة من حجرتين و تضم: شقيقتي ـ صاحبة الشقة ـ و بنتيها، و شقيقتي الأخرى التي كانت تدرس في كلية الحقوق جامعة عين شمس، و شقيقي المهندس الزراعي الذي كان يقضي فترة الخدمة العسكرية كضابط احتياط، و أضيف لهم ( العبد لله )...
العبد لله الذي كان متفوقا في دراسته، لم ينل تشجيعا، بل وجد إقصاء و إبعادا؛ فالأسرة التي أنهكها الإنفاق على تعليم الإخوة الكبار، و انتهاء زهوة تخرجهم من الجامعة؛ لم يعد يعنيها تميز غيرهم، بعد أن ضحضحت المعيشة أملهم في السائر على ذات الدرب، الذي ـ في نظرهم ـ لن يضيف جديدا لما حققه إخوته، فضلا عما شكله من تمرد على الواقع و ثورة على الأوضاع المعيشية...
فجاء ذلك الأسلوب المتوافق مع ما اتبعه المستبدون على مر العصور ضد معارضيهم؛ و هو الاقتلاع القسري لشخص من وطنه، وكما عَرَّف المنفى الكاتب/ فهد العودة: "المنفى ليس أن تكون خارج العالم، المنفى الحقيقي هو أن تكون خارج قلب من تُحب!." هكذا شعرت بمشاعر الكراهية ممن أحبهم، باعتباري شخص غير مرغوب في استمرار إقامته معهم؛ فترك هذا في نفسي غصة و مرارة ما زال أثرها باقيا حتى الآن...
غير أني كما قال الشاعر نزار قباني في قصيدته ( صباح الخير أيها المنفى ): "ما عدتُ في المنفى أحس بغربة أو وحشة/ أو أشتكي هذا الرحيل القاسيا/ قد أصبح المنفى صديقي الغاليا..."؛ فهناك كانت المفاجأة الكبرى، عندما اكتشفت عالما رحبا من العلم و المعرفة فاق حدود ما هو مدون في الكتب المدرسية، و من هنا كانت خطواتي الأولى على طريق الأدب:

الخطوة الأولى
الخطوة الأولى في أي مشروع هي المحددة لتاريخه القادم، هي الشرارة التي تلهب العقل و تضيء الفكر بنور المعرفة... تلك الخطوة التي خطوتها نحو القراءة منذ الصغر في شتى المجالات كانت هي البداية، مستعينا بما خلفه زوج شقيقتي من معين زاخر من الكتب ( قصص و روايات "عربية و مترجمة" ـ دواوين شعرية ـ كتب في السياسة و الاقتصاد و القانون... إلخ )، و ذلك قبل أن يُستشهد في حرب 67، تلك الحرب التي راح ضحيتها آلاف المواطنين المصريين دفاعا عن القضية الفلسطينية... و عقب المظاهرات الحاشدة التي انطلقت وقتئذ، رافضة تنحي رئيس الجمهورية عن الحكم؛ تملكني شعور بأن الهزيمة و الانتصار يبدآن من داخل الإنسان، فاندفعت نحو كتب المفكر سلامه موسي بشغف كبير، موقنا أنه إذا كانت الجينات تنقل البيانات البيولوجية وراثة؛ فإن ( الجينات الفكرية ) التي استلهمتها من أصحاب الفكر النهضوي، و الرؤية المختلفة، مثل جبران خليل جبران (1883 ـ 1931)، و سلامه موسى (1887ـ 1958) ؛ كان لها في تلك الخريطة الجينية التأثير الكبير، الذي بلغ حد أن أعددت وقتها كتابا ( مخطوطة لم تطبع ) بعنوان ( يقظة الوعي ـ ترجمة لفكر و حياة سلامه موسى ).
لم أستسغ وقتها الشعر في المقررات الدراسية و لا في كثير من الدواوين التي طالعتها في مكتبة زوج شقيقتي أ/ أحمد الفرحاتي ( رحمه الله )، لكونه يختلف كثيرا عما كنت أسمعه من قصائد الشعر التي تغنت بها أم كلثوم ( سيدة الغناء العربي ) (1908 ـ 1975)  التي أدت دورا وطنيا مهما في تلك الفترة العصيبة؛ فأخذت على عاتقها دعم الجيش بعد حرب (67) وطافت أنحاء العالم لتوفير الموارد المالية للمجهود الحربى، و من أشهر أغانيها وقتها: (حق بلادك) تلحين/ السنباطي، شعر/ عبد الوهاب محمد.
في الوقت الذي أثارت فيه قصيدة ( هوامش على دفتر النكسة ) لنزار قباني ( شاعر الحب و المرأة ) (1923 - 1998 م) أثارت عاصفة من الغضب إذ جاء فيها: (... إذا خسرنا الحربَ لا غرابهْ/ لأننا ندخُلها بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابهْ/ بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابهْ/ لأننا ندخلها بمنطقِ الطبلةِ والربابهْ...)؛ دفعتني تلك الجرأة التي اتسمت بها تلك القصيدة، لأن أسعى من خلال مصروفي البسيط لاقتناء ما تيسر من دواوينه، و الإعجاب بطابع الثورة، التمرد، التميز و العبقرية في استخدام الألفاظ و المعاني و الصور، ببساطة و سلاسة و دونما تعقيد؛ فبدأت في حفظ بعض أشعاره و ترديدها بمهارة إلقاء أشاد بها الأهل و الأصدقاء و زملاء الدراسة... إلى أن انتقلت من مرحلة الحفظ و الترديد إلى محاولات التدريب و التجريب؛ فجاء معظم ما نظمته وقتئذ بالعامية في صورة أزجال و رباعيات تتميز معظمها بالحس الساخر، و بعض الأشعار العاطفية التي أرسلها إلى البرامج المخصصة في إذاعة الشرق الأوسط  و إذاعة الشعب، و بعض الصحف... ثم في مرحلة تالية جمعت بعضها و أضفت إليها، و أصدرت ديوانين: ( من مذكرات زوج مخلوع ) و ( رباعيات مجدي شلبي ـ الطبعة الثانية منه بعنوان: كلام مربع )

الخطوة الثانية:
و تستمر مسيرتي الأدبية بالتوازي مع مسيرتي الدراسية، دون أن تطغى إحداهما على الأخرى، حتى أصل إلى الثانوية العامة ( عنق الزجاجة كما يطلقون عليها ) فأكسر تلك الزجاجة و أنطلق إلى عالم أكثر رحابة في العلم و المعرفة، فأطالع المزيد من الكتب الأدبية و العلمية و القانونية و الدينية بل و الفنية أيضا من خلال ما تحفل به مكتبات أشقائي الكبار، الذين تنوعت تخصصاتهم...
و على طريقة النحل، الذي يتغذى على رحيق الأزهار؛ خرجت كتاباتي التي نُشرت في صحف مصرية و عربية، على نحو مشوق جمعت فيه بين أدب المقامة، و فن المقال في تضفير فريد بين ما هو تراثي و ما هو حداثي، و هو ما أطلقت عليه ( المقال المقامي )؛ ثم جمعت تلك المقالات المقامية في كتب ثلاثة: ( لهذا وجب التنبيه ) و ( الرقص على سلم الصحافة )  و ( زواج على صفيح ساخن )...

الخطوة الثالثة:
كانت خطوتي التالية نحو النادي الأدبي بالمنصورة، حيث مُنحت العضوية العاملة فيه، و هنا تجدر الإشارة إلى أن الأندية الأدبية التي استحدثتها الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة لها تاريخ طويل، يبدأ من العصر العباسي (132-656هـ/ 750- 1258م) حيث كان للنادي الأدبي عندهم مكانة رفيعة وشكل باذخ ودقة في التنظيم والترتيب; و كان يدير النادي خليفة أو وزيراً أو أميراً أو قائداً، و يكون في ذلك النادي: الأدب و الغناء و الشراب و المجادلة و المناظرة.
و لما كانت الأندية الأدبية مغلقة على الحضور من الأدباء، الذين يستعرضون إبداعاتهم على بعضهم البعض، دون تغطية إعلامية أو ترويج معلوماتي عن أنشطة تلك الأندية؛ قمت بإنشاء موقع على الإنترنت ( بلوج ) لنادي أدب المنصورة،
ثم أتبعته بمشروع ( موقع لكل أديب ) الذي نفذت منه وقتها عشرات المواقع لأدباء و شعراء من المنصورة و القاهرة و محافظات أخرى، و لعبت تلك المواقع دورا مهما في التعريف بهم و نشر أعمالهم، قبل أن يظهر الفيسبوك: الوسيلة الأكثر تفاعلا و انتشارا...
و كما لعب الإنترنت دورا مهما مع هؤلاء الأدباء، كان له فضل كبير في تواصلي مع كتاب عرب من خلال الصفحات الالكترونية للصحف الورقية، و كانت إشاداتهم ( الموثقة ) بما أكتبه من مقالات و تعليقات دافعا لأن أجمع بعض تلك التعليقات التي كانت على شكل ( توقيعات أدبية ) في كتب ورقية: ( أسئلة ساذجة ) و ( كلمة في سرك ) و ( كلام و السلام )... و لا يفوتني في هذا المجال أن أشيد بما قدمه لي وقتها الكاتب السعودي د. محمد صادق دياب ( رحمه الله ) من تشجيع و مؤازرة.

الخطوة الرابعة:
عادة ما تكون مناقشة الكتب الأدبية، وسيلة لاكتشاف أمور غائبة عن الكاتب؛ فالناقد ليست مهمته فقط التنبيه للأخطاء و بيانِ المحاسن، و هنا أود الإشارة لما قدمه لي الناقد الكبير الأستاذ/ سمير بسيوني ( رئيس اتحاد كتاب الدقهلية و دمياط ) من نصح و توجيه أثناء مناقشتة لكتابي الأول ( لهذا وجب التنبيه ) عام 2010 في النادي الأدبي بقصر ثقافة المنصورة برئاسة الكاتب الكبير الأستاذ/ محمد خليل ( رئيس نادي الأدب المركزي )؛ حيث وجهني إلى الكتابة القصصية؛ فأثمرت محاولاتي 6 مجموعات قصصية قصيرة و قصيرة جدا، قمت بطباعة أربع منها: ( أصل و 100 صورة ) و ( غروب ) و ( حمرة خجل ) و ( المزلقان )... و بالمجموعات الأربع مُنحت العضوية العاملة في اتحاد كتاب مصر...
غير أن فكرة إحياء و تجديد التراث الأدبي من خلال المزاوجة بين ماهو تراثي و ما هو حداثي، على نحو ما فعلت في ( المقال المقامي  ) ظلت تلحُ عليَّ، حتى تبادر إلى ذهني أدب تراثي كتبت فيه من قبل هو ( أدب التوقيعات ). ذلك الأدب المشتق اسمه في اللغة من التوقيع بمعنى التأثير فيكون ( التوقيع ) سبباً في ( وقوع ) الأمر و إنفاذه، و عُرفت التوقيعات بأنها الأقوال الموجزة البليغة التي يكتبها المسئول أو يأمر بكتابتها كرد وتوجيه مؤثر وفعال في المعاملات الإدارية.
ازدهرت التوقيعات في ظل الاهتمام ببلاغة اللغة و فصيح الكلام في عصور الدولة الأموية و العباسية، وخصصوا حينئذ ديواناً يُعرف بـ( ديوان التوقيعات ) عينوا فيه بلغاء الأدباء و الكتاب، ثم اندثرت ( التوقيعات ) بعد ذلك وخبا وميضها المبهر فى ظل تعيين الموظفين الذين لا علاقة لهم بالأدب من قريب أو بعيد؛ ففقدت بهذا صفتها الأدبية لافتقادها عنصر البلاغة التى تعنى: حسن البيان وقوة تأثيره.
فكيف نعيد الحياة لهذا الفن التراثي البليغ؟
للإجابة؛ عمدت إلى المزاوجة بينه و بين فن حداثي ( فن القص )، لينجبا فنا جديدا، أطلقت عليه ( القصة الحكمة ) أو ( القصة الومضة ) تحقيقا لمشروعي الهادف لإحياء و تجديد التراث الأدبي من ناحية، و استجابة لحتمية التطور الذي يضيف للقوالب الأدبية التقليدية قالبا جديدا، يطلق حرية القارئ للتحليق في فضاءات أكثر رحابة من القوالب الأدبية المعتادة، و يتجاوز ما تعج به الساحة الأدبية من نصوص مكرورة في مجال القوالب التقليدية، و يستجيب لإيقاع الحياة المتسارع، بتكثيف و مفارقة و إدهاش و إيحاء و خاتمة مباغتة في بضع كلمات، لا تعد المحسنات البديعية حلية لها، بل هي أصل فيها...
و غني عن القول أن ما تحقق في مجال التعريف بهذا الفن الأدبي، و ما يتم عرضه من نصوص تطبيقية في الرابطة العربية للومضة القصصية، ثم الإصدارات المتتالية من الكتب الورقية ( كنوز القصة الومضة )، و ما صرحت به في الندوات الأدبية و اللقاءات التلفزيونية، و التقارير و الحوارات الصحفية؛ دليل واضح على استقلالية هذا الفن الأدبي المبتكر و تميزه و تفرده عن بقية الفنون الأدبية الأخرى.
و لا شك أن هناك العديد من المحطات الأدبية المهمة التي لم تتسع المساحة لها, منها دوري السابق كمنسق عام لمسابقة صلاح هلال، ثم الآن منسقا عاما لمسابقة شمسه العنزي في القصة القصيرة أيضا ( برعاية رابطة الأدباء الكويتيين ).
و لأن حياة الإنسان سلسلة متصلة الحلقات؛ تُعد كل خاتمة، مقدمة لحلقة أخرى، حيث يكون لقرار الإنسان، تبعات مستقبلية، لم تكن في الحسبان، و كأن هناك يدا خفية تدفعنا دفعا لتلك الخطوة، للوصول إلى نهاية حددها القدر مسبقا...
فمن تلبية نداء الوطن بأداء الخدمة العسكرية عام 1976 إلى رحلة السفر إلى العراق 1980 امتثالا لأبيات الحكمة للإمام الشافعي:
إِذا ما ضاقَ صدرُكَ من بلادٍ... ترحلْ طالباً أرضاً سِواها
ثم العودة و افتتاح ستديو تصوير  1982 أطلقت عليه اسم (أحلى الذكريات)
و تتواتر الحلقات، تمهيدا للاستقلالية عن الأسرة الكبيرة، و تكوين أسرة جديدة، و هو مالم تتسع له الصفحات.

خاتمة:
إن ضيق المساحة الممنوحة للشهادة، يأتي متسقا مع ضيق المساحة المتبقية من عمري!، و هو ما يجعلها أشبه بالوصية، التي أُودعها مشفوعة بميراثي الإبداعي، متمنيا للأدب أن يظل أدبا، خلوا مما شابه من صراعات و غلٍ و أحقاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشهادة عاليه (نقوش غلى جدار الذاكرة) للأديب مجدي شلبي
منشورة في كتاب مؤتمر إقليم شرق الدلتا الثقافي رقم 16
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ