الجمعة، 2 يونيو 2017

الجزء الثالث من سيرتي الذاتية ( مشروع كتاب في مرحلة الإعداد )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجزء الثالث
من سيرتي الذاتية ( مشروع كتاب في مرحلة الإعداد )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أداء الواجب العسكري:
مقدمة:
قبل الولوج إلى الحديث عن تلك الفترة التي قضيتها في العسكرية؛ أرى أنه من الأنسب و الأوفق أن نطلق عليها فترة ( أداء الواجب العسكري ) و ليست فترة ( أداء الخدمة العسكرية )، ذلك لكون لفظ ( خدمة ) مرتبط ارتباطا ذهنيا بالقهر و الذل و الاستعباد، و هو مالا يتوافق مطلقا مع لفظ ( العسكرية )  بكل ما يحمله هذا اللفظ من معاني العزة و الفخر و الشموخ و الكرامة و الإباء...
الخطوة العسكرية الأولى:
تلك الخطوة التي تبعتها خطوات على مدى ثلاث سنوات (1976 ـ 1979) كانت إلى منطقة تجنيد الزقازيق، حيث كان الكشف الطبي، تم استخراج الكارنيهات، وتسلم المهمات، و كان توزيعي على سلاح ( الدفاع الجوي ) ذلك السلاح الذي ( تحتفل قواته بعيدها في يوم 30 يونيو من كل عام، وهو اليوم الذي سطر فيه رجال الدفاع الجوي المصري واحدة من أعرق المعارك العسكرية المصرية عام 1970، حين قاموا بإنشاء حائط الصواريخ الحصين، الذي حمى السماء المصرية من هجمات سلاح الطيران الإسرائيلي المتكررة التي أسفرت عن خسائر في أرواح الجنود والمدنيين، ومنها مذبحة بحر البقر التي راح ضحيتها 30 طفلا خلال قصف لطائرات الفانتوم الإسرائيلية فوق قرية بحر البقر بمركز الحسينية بمحافظة الشرقية في أبريل 1970 (  ( موسوعة ويكيبديا )
و قبل أن ننطلق من طابور التوزيع إلى عنابر المبيت انتظارا لترحيلنا إلى مراكز التدريب في صباح اليوم التالي؛ حدث موقف عجيب ـ لو علم به قائد المنطقة وقتها لعاقب هؤلاء عقابا شديدا ـ فقد أوقفونا في صفوف ( للتبرع بالدم )، و انتقوا من بيننا من قالوا عنهم بالحرف الواحد: "دمهم نضيف" هكذا بمجرد النظر!، و ذهبوا بنا إلى غرفة التبرع بالدم، كان الدم يتدفق من يدي إلى الكيس الأول أسرع، فأتى بالكيس الثاني قائلا لزميله: "عنده دم كتير"!؛ لم أشأ أن أبدي أي اعتراض، لكن عندما رفعت رأسي شعرت بدوار شديد إلا أن كيس العصير الذي منحوه لكل منا أفاقني قليلا، و استطعت أن أسير مترنحا حتى وصلت إلى عنبر المبيت؛ استلقيت على أحد الأسرة؛ إلا أن نبضات قلبي تهافتت جدا، حتى كادت تتوقف؛ سمعت حولي حوارا بين دفعتي من الجنود الجدد:
ـ الواد ده وشه أصفر كده ليه؟
ـ أخدوا منه دم كتير
ـ دا شكله هيموت
ـ بقولك إيه إحنا مالنا، هو احنا اللي موتناه؟!
من حلاوة الروح نهضت، و ترنحت حتى وصلت إلى ذات الغرفة التي تبرعنا فيها بالدم منذ قليل؛ فوجدت الباب مغلقا؛ و أصوات طبل و هرج و مرج في الداخل؛ أخذت أطرق طرقات المستنجد و المستغيث بقوة الخوف من مصير الموت... إلى أن فتح أحد الجنود الذين كانوا بالداخل:
ـ نعم؟!
ـ أنا قلبي هيقف، هموت
جاء صوت من الداخل يسأل زميله:
ـ فيه إيه يا محمود؟
ـ واحد قلبه وقف
ـ قوله يقعده...
و انطلقت من الداخل ضحكات ساخرة، غير أن الواقف على الباب يبدو أنه تأثر من منظري؛ فدخل و عاد و في يده كيس عصير آخر، و قال:
ـ هتشرب العصير هتبقى كويس، ما تقلقش.
الخطوة العسكرية الثانية:
شاء الله أن يحفظني من موت محقق؛ فيتم ترحيلنا في اليوم التالي إلى مركز تدريب الدفاع الجوي في منطقة جبلية يُطلق عليها (اللاهون)...
و هي بحسب ما علمته لاحقا من موسوعة ويكيبيديا: (هي إحدى القرى التابعة لمركز و محافظة الفيوم، و بالقرية، هرم بناه سنوسرت الثاني أحد ملوك الأسرة الثانية عشر. و قد فتح هذا الهرم بمعرفة العالم الانجليزى وليام فلندرز بتري 1889 و عثر داخله على الصل الذهبي الوحيد الذي كان يوضع فوق التاج الملكى و هو بالمتحف المصري، و كذلك تم الكشف عن مقبرة الأميرة سات حاتحور بجوار الهرم، و ما زالت كنوز هذه الأميرة بالمتحف المصري. و تضم منطقة هرم اللاهون المعالم الأثرية التالية :
جبانة اللاهون، و مدينة عمال اللاهون و مقبرة مكت، قاعدتا تمثالا إمنمحات الثاني...).
تلك هي اللاهون بتاريخها العريق، و صحرائها الشاسعة التي اشتهرت وقتها بعبارة يتداولها الجنود: "كله يهون إلا عذاب اللاهون"!... فهل كانت هذه المنطقة كما يصفون أم أنهم كانوا يبالغون؟...
لم أنشغل كثيرا بهذا السؤال؛ فكل ماكنت أتمناه، هو أن أظل فقط على قيد الحياة! بعد تلك المعاناة الصحية التي كادت تعصف بحياتي.
من الطبيعي أن نمتثل للأوامر في الطوابير العسكرية المعتادة، و نتحمل بعض التجاوزات اللفظية؛ فالحزم و الانضباط هو سمة تلك المرحلة؛ فإذا ما انتقلنا من الطوابير المعتادة إلى تناول الطعام ( ثلاث وجبات: إفطار و غذاء و عشاء ) يطلقون علي كل منها (التعيين) يتقدم كل منا بوعائه الألمونيوم المجوف لاستلام تعيينه ( هذا الوعاء يطلقون عليه: )،  و الخبز يطلقون عليه ( جراية ) و السمك ( يمك ) و المسقعة ( الطبخة السودة )!...
فإذا ما انتهى يومنا نتوجه إلى النوم في الخيام، و في تلك الخيام رأينا عجبا: فضلا عن الجرذان الجبلية و الثعابين، كانت هناك بعض الخيام يرفض الجنود النوم فيها بزعم أنه مسكونة بالأشباح و العفاريت، و لما كنت ممن يجاهرون برفضهم لتلك الخرافات و المزاعم؛ تحدانا بعضهم أن ننام في إحداها؛ فقبلنا التحدي و ذهبنا ـ كنا أربعة ـ و من عجب أن ما رواه أحدنا في الصباح هو بالضبط ما رآه ثلاثتنا دون أن نقوى على الحركة ـ أثناء تلك المشاهد ـ من شدة الرعب...
و لا يبقى في الذاكرة من تلك الأيام إلا فترة عدم وصول المياه، و اضطرارنا للشرب من مياه آسنة من ترعة بعيدة، بالنسبة لي لم أفعلها إلا مضطرا جدا مرة واحدة؛ فقد نزلت عقبها إجازة، عدت بعدها مباشرة لأجد مندوبا قادما من الإسكندرية لإلحاق 3 جنود من مركز التدريب لأداء الواجب العسكري في دار الدفاع الجوي، و تلك هي الخطوة التالية...
الخطوة العسكرية الثالثة:
كان هذا المندوب ـ أذكر اسمه العريف/ محمد سعيد ـ بمثابة المنقذ من جحيم مركز التدريب، و هو ما صوره بعض الزملاء المرافقين ( كنا ثلاثة أفراد ) بأننا: "أمنا داعيلنا"، وصلنا الإسكندرية، و كانت الملاحظات المدهشة: أن اليوم يمر بسرعة على غير ما اعتدناه من قبل...
تم توزيعنا للعمل داخل الدار التي كانت عبارة عن ( فندق و مطعم في آن واحد لضباط الدفاع الجوي ) فكان من توفيق الله لي أن تم اختياري للعمل في الاستقبال (Recepion) و هي المهمة التي أديتها بحرفية و إتقان مستعينا بكتب في علوم الفندقة، فضلا عن شرائي ( دليل تليفونات الهيئات و الشركات ) الذي كانت تصدره مؤسسة الأهرام، و متابعتي لكل ما يستجد من معلومات؛ أساهم من خلالها في الإجابة على أي استفسار من قبل رواد الدار من السادة الضباط، و التعامل بحزم في حالة وجود أي شكوى؛ مما حدا بهم إلى توجيه و تدوين كلمات إشادة و تقدير لي في سجل الزوار، أذكر منها عبارة: "نشكر قائد النادي و جميع العاملين و نخص بالشكر مجدي عثمان الذي يستحق عن جدارة أن يعين حكمدارا للنادي"...  
كان ضمن نزلاء الدار في تلك الفترة: العقيد/ حسين فهمي ( عم الممثل الشهير/ حسين فهمي )، و الرائد/ شوقي عبدالشافي (شقيق اللاعب الشهير: عبدالعزيز عبدالشافي "زيزو") و يصعب على من هم في مثل سني تذكر أسماء شخصيات أخرى. 
و لا يمكن بحال اختزال فترة وجودي في تلك الدار التي امتدت لسنوات في عدة سطور؛ غير أن هناك مواقفا و أحداثا تعرضت لها أثناء تلك الفترة، لا يمكن إغفالها، منها: عدم تمكني من قضاء إجازتي يومي: 18 و 19 يناير 1977 و ذلك لتوقف حركة القطارات في هذين اليومين:
 ( فقد حدثت انتفاضة شعبية في عدة مدن ضد الغلاء رفضا لمشروع الميزانية الذي تقدم به الدكتور عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء للشئون المالية و الاقتصادية آنذاك في خطابه أمام مجلس الشعب في 17 يناير 1977 بخصوص مشروع الميزانية لذلك العام، أعلن فيه إجراءات تقشفية لتخفيض العجز، و رفع الأسعار للعديد من المواد الاساسية، حيث ربط هذا بضرورة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي و البنك الدولي لتدبير الموارد المالية الإضافية اللازمة.
فكان رد فعل الشارع على الزيادات أن الناس خرجت للشوارع؛ حتى استجابت الحكومة و تراجعت عن زيادة الأسعار. أطلق الرئيس أنور السادات عليها آنذاك إسم "انتقاضة الحرامية" و خرج الإعلام الرسمي يتحدث عن "مخطط شيوعي لإحداث بلبلة و اضطرابات في مصر و قلب نظام الحكم" وتم القبض على عدد كبير من النشطاء السياسيين من اليساريين قبل أن تصدر المحكمة حكمها بتبرئتهم ). ( ويكيبيديا ) 
و كما اعتدنا دائما تطفو الذكريات المؤلمة على السطح، دون الذكريات المفرحة؟!؛ أعدت عقارب الزمن 40 سنة إلى الوراء: أدخل إلى المستشفى الإيطالي العسكري بالأسكندرية، أحمل في يدٍ ( أورنيك عيادة ) من الوحدة العسكرية التابع لها، و في يدي الأخرى منديلا من القماش أبصق فيه دما... يتم توقيع الكشف الطبي، و تحويلي إلى عنبر ( تحت الملاحظة )
فأذكر مثلا ذهابي إلى المستشفى الإيطالي العسكري بـ( أورنيك عيادة ) مصابا بأعراض أنفلونزا حادة؛ فتم منحي علاجا مكثفا، و إدخالي عنبر ( تحت الملاحظة ) الذي كان فيه عدد من الجنود المرضى بذات الأعراض، و علي ما يبدو أن الأطباء اشتبهوا في أن تلك الأعراض لها علاقة بفيروس الكورونا ( أعراضه تشبه أعراض الزكام العادية فيمكن أن يتسبب فيروس كورونا في إصابة الإنسان بنزلات البرد الشائعة، وصولاً الى المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة، أي فيروس "سارس" الذي عرف لاحقاً بمتلازمة الالتهاب الرئوي الحاد، وهو فيروس يهاجم الجهاز التنفسي. )؛ فبدأ التعامل معنا على طريقة العزل و كأننا مصابون بهذا المرض الوبائي، و زاد الأمر حيطة و حذرا وفاة واحد منا؛ فأصبحنا نشاهد من النافذة العلوية للعنبر المارين من بعيد و هم ينصحون بعضهم:
ـ تعال... ابتعد عن هذا العنبر؛ كوليرا... كوليرا!
ـ يا ساتر يا رب... حد مات منهم؟
ـ أيوه ياعم امبارح ثلاثة ماتوا، و واحد انهارده!
ـ كلهم هيموتوا؛ المهم ما يعدوش حد!
حتى الذين يأتون لنا بالطعام؛ يضعونه على مسافة بعيدة، و يهرولون...
نسخر من مبالغتهم في عدد الوفيات، و نحاول أن نطمئن أنفسنا:
ـ سمير ( المتوفي ) كان تعبان عنده الكبد أصلا وجاي هنا خلصان، شيء طبيعي إنه يموت، و الأعمار بيد الله.
ـ الله يرحمه
يمر علينا اليوم الثالث، دون أن يموت أحد ( الحمد لله )؛ فيزداد يقيننا بأن ما يروجه الناس في خارج العنبر هو محض افتراء، و أننا لابد أن نطالب بخروجنا من هذا العنبر الذي بات و كأنه سجن... غير أن وفاة زميلنا ( حسين ) في تلك الليلة أخرسنا، أوجعنا؛ أرعبنا، و زاد من عزلتنا...
الشيء المؤلم في هذا الأمر أيضا، هو عدم سؤال أهلي عني طوال تلك المدة، وكأن لسان حالهم يقول: "أراح و استراح"!.
ثم يتوقف مسلسل الوفاة عند هذا الحد لمدة أسبوعين؛ فيجري الأطباء الفحوصات الطبية، و يعلنون سلامتنا، و يسمحون بإخراجنا، و التوصية الطبية بمنح كل منا إجازة لمدة شهر كامل...
خاتمة:
الحمد لله الذي منحني نعمة الحياة، لأسرد تلك الشهادة عن فترة من حياتي و ما كان فيها من مواقف و أحداث، أنهيتها بخطأ تنبؤ هؤلاء المارة بجوار ( عنبر تحت الملاحظة ) بوفاتنا منذ 38 عاما، و مع هذا يصدق بيت الحكمة:
و من لم يمت ( بالكوليرا ) مات بغيرها/
تعددت الأسباب و الموت واحد
مع الاعتذار للشاعر/ ابن نباتة السعدي (327هـ/941م بغداد ـ 405هـ/1014م)...
داعيا الله أن يقيكم شر الأمراض و يمتعكم بالصحة و السعادة و طول العمر و صلاح العمل.
لأنتقل من تلك المرحلة إلى مرحلة أخرى هي بداية الحياة العملية و السفر إلى العراق

( في الجزء الرابع بإذن الله )