قراءة
نقدية في خمسة دواوين شعرية
بقلم/ مجدي شلبي
بحثي المقدم في مؤتمر الدقهلية الأدبي الثاني عشر و المقام في مدينة جمصة 3 مايو 2018 و الذي تم نشره في كتاب المؤتمر
تمهيد:
تمهيد:
من المتعارف عليه أن الدراسات النقدية
الحديثة قد خرجت عن النهج التقليدي، الذي اعتاده النقاد في الماضي، غير أن العنصر
المشترك بين المدارس النقدية ـ قديمها وحديثها ـ يكمن في استجلاء أبعاد الجمال في
العمل الفني، ويشمل:
1ـ الأصالة والصدق: أي
البعد بالعمل الفني عن الزيف والكذب والتصنع.
2ـ الانسجام والتناسب
والتناسق والاتزان، وبعبارة أعم وأشمل "حسن الصياغة والتعبير".
3ـ النشوة: وهى غبطة ترتبط
بالروح والوجدان ويدركها ويستمتع بها المتلقي المتذوق للجمال.
وهو ما سأحرص على استجلائه
ـ قدر الإمكان ـ في قراءتي المتواضعة في الدواوين الخمسة.
عناوين
الدواوين موضوع البحث:
1ـ (رجفة الوحي الأخير)
للشاعرة/ فاطمة عبد الكريم
2ـ (راهبة في محراب العشق)
للشاعرة/ شيرين عجيز
3ـ (إليها في الخيال)
للشاعر/ علاء التليس
4ـ (كيف أكون نبيا) للشاعر/
حسن مأمون
5ـ (مرسى العشاق) للشاعر/
علي نور الدين
(العشق):
القاسم المشترك بين الدواوين الخمسة
للوهلة الأولى نكتشف أن الدواوين الخمسة
يجمع بينها خيط من نور (العشق) ـ على اختلاف صوره وأشكاله وطرق التعبير عنه ـ من
خلال بناء فني متدفق بالشاعرية، المعبرة عن تلك الحالة من الرغبة والرهبة، تصريحا
أو تلميحا...
صحيح أن حضور (العشق) في أغراض الشعر وفنونه
ليس أمرا جديدا، بل هو الموضوع الأثير إلى نفوس الشعراء على مر العصور، لكن اللافت
للنظر هو تنوع الصور والدوافع، وطريقة العرض والتناول... فضلا عن حالة التمرد على
القالب الشعري التقليدي ـ في دواوين أربعة منها ـ اتساقا مع ما يمكن اعتباره ثورة
حداثية، بدأت في عالمنا العربي من منتصف القرن الماضي، من خلال الأعمال الشعرية لرواد
الشعر الحر لكل من: نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، وأدونيس
الذي كان متزعما لهذه الحركة بدرجة كبيرة حيث كان له اتصال بالحداثة الغربية، فوضع
أسس هذه الحركة الشعرية في العالم العربي على ضوء تلك الحداثة الغربية...
ـ فمن قصيدة (عشق) للشاعرة/
فاطمة عبد الكريم:
يا سرمدي الوجد... أمهلني
هذي المعاني قد هوت...
وارتد حزني
صوفية... لا أرتقي...
مهدية... تَبَّتْ يدي
ما لي سوى روحي مشت...
بالعشق ليلا... فاستوت
واشتد بي شُغلي
ـ ومن قصيدة (راهبة في
محراب العشق) للشاعرة/ شيرين عجيز:
كذبت على الناس
بأني لست عاشقة
وأنا في محراب العشق
والله راهبة
ـ ومن قصيدة (أنا و أنت)
للشاعر/ علاء التليس:
وأنت
نجم معتم
عشق الأفول
ما أقبح النجم الذي
عشق الظلام
يُلقي على الدنيا الكآبة
يمنع الطفل الكلام
ـ ومن قصيدة (ماذا لو...؟)
للشاعر/ حسن مأمون:
ماذا لو أني...
زرعت الكون حدائق حب
وأقمت بقلبي مدن العشق
وعرضت الملك عليك
ـ ويأتي الديوان الخامس
ملتزما بالقالب التقليدي (شعر عمودي)؛ فمن قصيدة (لماذا عشقت؟) للشاعر/ علي نور
الدين:
أراك فتحلو
لعيني الحياة وترتاح عيني بطول النظر
فعودك غصن
ندي مليء بأحلى وأشهى صفوف الثمر
وعيناك بحر
بلا شاطئين وشعرك كالليل حول القمر
ولأن العاشق ينتابه إحساس دائم بالحرمان
والظلم لعدم مبادلة المعشوق لمشاعره؛ نجده يبادر دائما بالحديث عنه, في محاولة
لجذبه نحوه...
أهم
مظاهر الاختلاف:
ورغم أن حديقة المشاعر والأحاسيس قد جمعت
الشعراء الخمسة في جل ما تناولوه؛ إلا أن ما وشت به أشعارهم اختلفت في مستوياتها،
بين طيف شعري يعبر عنه بيت الحكمة لنازك الملائكة:
(ربّما كان خيالا صاغه فكري
وليلي وتلفتّ ولكن لم أقابل غير ظلّي)
وبين مستوى رؤية أكثر عمقا،
أتت متوافقة مع بيت الحكمة لإيليا أبو ماضي:
(والأقاحي صور خلّابة وأغاني الطير شعر لا يضاهى)
وبين هذه وتلك نلمح بريقا
ينبئ باكتمال بدور وأبدار تتألق في سماء الشعر...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القراءة الأكثر تفصيلا في كل ديوان على حدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
عزف على أوتار الاغتراب
قراءة في ديوان (رجفة الوحي الأخير) للشاعرة/ فاطمة عبد الكريم
مقدمة:
عندما نبدأ بقراءة في مخطوطة ديوان (رجفة
الوحي الأخير) للشاعرة/ فاطمة عبد الكريم؛ نجدها لم تستقر على هذا العنوان تحديدا،
لكنها وضعت عنوانا بديلا: (هل صادقتك المرايا؟!) باعتباره عنوان إحدى قصائد
الديوان، وهنا تجدر الإشارة إلى أن العنوان الأول (رجفة الوحي الأخير) قد تجاوز
المعنى اللغوي والنقدي إلى تكوين معقد، يتضافر فيه التصريح بالتلميح، والإبهام
بالإعلان، وهو التوازن الدقيق الذي يلقي الضوء بمهارة وحذق على محتوى الديوان بممراته
المتشابكة، في حركة تبادلية متفاعلة بين (العنوان) و(المتن)، بين المرجعية والدلالات
المتعددة، في تناغم فني مبدع...
وما أن نشرع للولوج في
الديوان؛ إلا ونجد الشاعرة في صفحته الأولى تمنحنا مفتاحا له:
ألسنةُ الليلِ مزركشةٌ
فوهةُ العالمِ مقلوبةْ
والناسُ تجيدُ التهليلْ
لا أثقُ الآنَ بأوردتي
فالعلمَ يقودُ مسيلمةٌ
والقتلَ يعاودُ هابيلْ
هذا الواقع المؤلم عبرت عنه الشاعرة بصور
يكتنفها بعض الغموض، موظفة فيها الرموز توظيفا رائعا، و هو ما نراه جليا هنا وفي
العنوان أيضا ـ كما أشرت من قبل ـ وفي قصائد الديوان الذي تضمن أربع قصائد عمودية
من إحدى و ثلاثين قصيدة احتواها...
تعلن قصائد هذا الديوان عن كتابة مغايرة
تعبر عن زمن الاغتراب، ليس ريا لبذور اليأس والقنوط والإحباط، لكنها تزرع في قلوب الصمت
مساحات من الحلم والحب والأمل في الحياة، ويتضح هذا جليا فيما ورد من قصيدة (كما أنت):
(وما العمرُ إلا كتابُ
رحيلٍ وسطري حواه)
(أنا الآن حتما أريد الحياة)
ـ ومن قصيدة (مرايا
الورق؟!):
(يا لوعتي...
الكل يبحث في الثرى
عن موطنك
من أين كنت...
وكم إلى أين مضيت؟
هل ليس لي في الورد بيت؟
من هوميروس إلى القصيد
مكبل فيَّ الخيال)
إننا أمام حالة وجودية تعبر عن صيرورة الذات،
وشغفها للانعتاق من ظلام الموت المرادف لظلم الحياة، ولأن الشعر فعل حرّ لا يحاكي
الواقع كما هو؛ بل يتجاوزه إلى المعنى الإنساني المطلق؛ لجأت الشاعرة في كثير من
الأحيان إلى استخدام الرموز، التي أضفت الغموض على بعض القصائد؛ اتساقا مع ما ذكره
أدونيس "غموضا حيث الغموض أن تحيا، وضوحا حيث الوضوح أن تموت"...
ولكون الكتابة ميلاد آخر للذات، وانتشال معناها
الحقيقي من عوالم الصمت والنسيان، والبحث عن أبجديتها الحقيقية المغيبة في ظلام الصمت؛
عزفت الشاعرة على أوتار الذات التواقة للحرية والحبور، للخروج من الليل إلى النور:
ـ (يا موتة الحب الأخير إلى
متى...
تمتد روح في الضباب)
ـ (والليل في عنق الضباب...
لعله من فوهات النور يوما
ينطلق)
إن ما تضمنه هذا الديوان من عشرات القصائد
الرائعة؛ يُعد تجربة تعبيرية لافتة، تراهن على تصوير المعاني المرتبطة بكينونة الإنسان
الوجودية، من خلال البوح المخصب بعبارات وصور فريدة من القاموس الخاص بالشاعرة
فاطمة عبد الكريم، منها على سبيل المثال:
ـ (انسل نورٌ في دمي)،
(فنون تغرد)، (فكم زلزلته القوافي)، (ألقت شمس الحق كتابا)، (على سِفر الهوى
باقِ)، (يعيد الفجر نجواه)، (أنا طيف بلا ضجة... أنا حرف بلا شطآن)، (كنا نناجي
روضة الأحلام في زمن مضى... ونقيم أعراسَ الأماني بيننا)، (ضاعت بهجة الأيام
والعمر انثنى... ضاعت مآذن عُرسِنا)، (يطرد من قوافي الشعر بيتي)، (رحت أجوب في
حارات فكري... أفتش عن صدى يهدي ندايا)، (يغرق في بحار الشك عمري)، (تخط له من
الليل الحواديت)، (كف الريحِ طوافٌ)، (همومُ البحرِ لا تغفو... ولا تهدأ... ولا
تُحسم... و لا الشُّطآنُ تعذرهُ)، (ومضت تتمتمُ باللقاءِ المستحيلْ... فبكل ركن في
الجراح لها دليلْ)، (أركضْ على ناري التي ما استسلمت أنفاسُها)، (تبتسمُ الشمس عند
الوداع... وترسل للبدر قُبلتها في الهواء)، (إذا الليل أقبل... تأتي السماء
بنجماتها)، (الشمس باعت أنجمي)، (صنعت الشعر طيرا سابحا بفضائه)، (ثم دمعٌ شق
حزني... فانبرى منه عطائي)، (صفحة الحب انطوت لي... مثل عمري في الفضاء)...
ومن الملاحظ أن الشاعرة تجسد الصراع الثنائي
بين الموت والحياة، القبح والجمال، الخير والشر، العدل والظلم... لذلك تأتي
أسئلتها في كثير من الأحيان منفتحة على بنية استدعائية تارة، و استنكارية تارة
أخرى فمن قصيدة (مرايا الورق) تسأل:
ـ هل ليس لي في الورد بيت؟
ـ إلى متى تنشق روح عن
جسد؟!
ـ هل يكتفي زهر عمري... من
صحبة الأغنيات؟!
ومن قصيدة (ضيف غائب) تسأل:
ـ كيف أرضى بانحنائي؟!
ومن قصيدة (زهرةُ الأيام)
تسأل:
ـ هل كان عُرسُ الشمسِ في
يوم بهيجٍ موعدا؟
ومن قصيدة (مهر البلابل)
تسأل:
ـ هل أصدقَ الليلُ الموانئ؟
ومن قصيدة (همس) تسأل:
ـ يا هل تُرى يومي الغريبُ...
سينحني توقا لأمس؟
ـ هل رجفةُ الأمدِ البعيد
تبوحُ لي... والحال همس...؟
ـ أ لكلّ شيءٍ بالحياةِ
نقيمُ صف؟
ومن قصيدة (تعجب) تسأل:
ـ من ذا أقالَ العهدَ
فيك... وكُنتَ دوما مسرحي؟
ومن قصيدة (ثورة معكوسة)
تسأل:
ـ من ذا الذي بعد الهدى...
يقضي بمنع الحزن مَن؟!
ومن قصيدة (هذا لوْنُك)
تسأل:
ـ كيف أجوب العالم وحدي...
دون ذراعٍ يحضنُ رأسي؟
ومن قصيدة (هنا التاريخ)
تسأل:
ـ فهل سيعود في يوم
إلينا زمان فيه من حسن النوايا؟
ومن قصيدة (يا عربيا) تسأل:
ـ يا عربيا... أين ربوعك...
أين شموسك... أين وأين وأين وأين... أين حدودُ بحورِ الدم؟!
ومن مطلع قصيدة عنوانها
(سؤال) تسأل:
ـ سؤالٌ جوابٌ... نوايا
جسام... أ كلُ الذي في المرايا حرام؟
ثم تُنهي تلك القصيدة
بالأبيات:
مَلأنا الزهورَ فَمَ
الابتسام
زرعنا السماءَ بُروجَ
اليمام
وليس لدينا سوى الربِ يحمي
ونحن نُرددُ... عاش السلام.
*****
(2)
رسائل خطها الشوق
قراءة في ديوان (راهبة في محراب العشق) للشاعرة/ شيرين عجيز
قبل استعراض نتائج التحليق في سماء تلك
القصائد؛ أرى من الضروري التعبير عن مشاعر التقدير والإعجاب بإشراقات تلك النصوص،
الدالة على اجتهاد في البوح، يتلمس طريقه إلى المتلقي بدأب وإصرار، من خلال بناء
يتمرد في كثير من الأحيان على المرجعية التقليدية للشعر، على غرار ما اعتمدته
الشاعرة التونسية/ جودة بلغيث في قصيدتها التي تطابق عنوان هذا الديوان
("شهوة" راهبة في محراب العشق) و التي جاء فيها:
"و أشتهي أن أنغمس في الماء
حتّى أصير ماء...
ينحت كلس المعاني
ترابا يتبرّك به العاشقون
... ماء
يقلع عشب القسوة النّابتة بين ضلوعك
يحضن تعبك حتّى الخلاص
أشتهي أن أصير ماء...
يغسل غبار المسافة
يزيل صدأ الوقت الرّقيب"
وهنا تتضح حالة التمرد على بنود القصيدة
التقليدية وكسر قيودها، بتجاوز الشعر الحر إلى ما اصطُلح على تسميته بـ(قصيدة
النثر) التي يتحرر فيها الشاعر من الوزن والقافية، معتمدا على بعض المحسنات البديعية
كالجناس والسجع عوضا عن الأسس الموسيقية التي امتازت بها مختلف التيارات الشعرية
الأخرى...
وإذا كان هناك تطابق بين العنوانين إلا أن
شاعرتنا القديرة/ شيرين عجيز، قد تجاوزت الصياغة النثرية للشعر بمراحل؛ وهو ما
يمكن ـ بعد مراجعة بسيطة ـ أن تتبوأ أشعارها المكانة اللائقة بها، وما سنعرض له من
نصوص سيوضح بجلاء مدى قدرتها على البوح الشفيف، وأبعاد صورها الفنية الفريدة...
رسائل
خطها الشوق:
الرسائل هنا: طريقة من طرق التواصل، للتعبير
عن المشاعر الجريحة، التي تظل تعانق أحزانها، وتنزف فوق مساحات الليل سهدا وأرقا:
ـ فمن قصيدة (سفينة
الأحزان):
عيناك مرسى سفينتي
كل المراسي تعاستي
ـ ومن قصيدة (رحيل):
إني وهبت العمر بعدك للزمان
وتركت مدينة العشاق
وسكنت مدينة الأحزان
ـ ومن قصيدة (قبل الممات):
سأترك إليك وصيتي قبل
الممات
فليس لي أحد سواك
ليحمل نعش الذكريات
ـ ومن قصيدة (سأشتري قبرا):
وسأنهي قصيدة أحزاني
لو جاء الموت وألقاني
ـ ومن قصيدة (اتركوني):
اغلقوا الستائر واتركوني
واتركوا الأحزان ترقد في
عيوني
ـ ومن قصيدة (أيها القمر
الحزين):
أيها القمر الحزين في سمائي
ألم نتواعد قبل الرحيل على
اللقاء
نلتقي في سكون الليل
كالعشاق
ونلتقي في طلوع الشمس
كالغرباء
ـ ومن قصيدة (أيحين وقت
اللقاء؟!):
هل سيأتي يوم نلتقي بعد
الرحيل
نستبدل الأحزان في ليل طويل
تلك الإشارات التي تم استعراضها ليست إلا
تعبيرا عن طاقة يولدها حزن شديد، نتيجة حرقة معاناة العشق، سواء كان ممنوعا أو محاصرا...
ولم تكتف الشاعرة ببث أحزانها عبر رسائلها الضمنية في قصائدها، بل رغبت في التفاعل مع حمولتها المثقلة بالهموم بحثا وانتظارا:
ـ فمن قصيدة (في محطة
القطار):
كنت أبحث عن هواك في محطة
القطار
وأسأل عنك من أراه
في ساحة الانتظار
ـ ومن قصيدة (أحبك):
أحبك والحنين إليك يكويني
ويحرق كل أضلعي
ويتعبني ويشقيني
فأبحث عنك يا قدري
فهل يوما تناديني
ـ ومن قصيدة (رسالة):
أه من قلب عليل
يبحث عن دواء
ـ ومن قصيدة (أفتش عنك):
أبحث عنك في كل مكان حولي
في تلك البقعة التي كنا
نلتقي فيها
لقاء العشاق
ولكون العمل الأدبي بشكل عام، و الشعري على
وجه الخصوص يعتمد على إبداع الصور الجمالية، التي تشكل بنية ممغنطة بالانفعال،
مسحورة بطاقة غناء فذة في عمقها و كثافتها؛ نجد الشاعرة/ شيرين عجيز، قد أبدعت في
رسم عديد من الصور الفريدة، منها على سبيل المثال:
ـ (عيناك مرسى سفينتي)،
(الخوف يؤنس وحدتي)، (سكنت مدينة الأحزان)، (قد كان لي بيت هنا... ساكنا بين
الديار)، (كأنني نجم شريد ما زال يبحث عن مدار)، (تذوق أوجاع السنين)، (أبحث عنك
بين الدروب)، (من العشق اكتوى صدري... فلا نوم يصاحبني، ولا فرح يواسيني)، (ليحمل
نعش الذكريات)، (أخاف الموت ينساني)، (يشعل نار بركاني)، (أيها الجلاد مات النبض
في قلبي)، (سطور هاربات تنجو من القهر)...
وما بين دفتي هذا الديوان بقصائده الثمانية
والعشرون تكمن درر ولآلئ، تحتاج في اكتشافها إلى غواص ماهر في (بحور الشعر)؛ ليزيل
ما علق بها من هنات، و يقوم (بوزنها) بميزان الجواهر.
*****
(3)
التماهي بين الواقع والخيال
قراءة في ديوان (إليها في الخيال) للشاعر/ علاء التليس
صوت شعري عذب لشاعر متمكن؛ أمتعني أن أصغي
إلى قصائده، التي عبرت عن موهبه فنية، وثقافه واسعة، ومقدرة لغوية، وإبداع يستحق التقدير
والاحترام...
ولن أتوقف طويلا أمام
العنوان الذي يكشف بعض أبعاده ودلالاته قول الشاعر بدر شاكر السياب:
ولولا خيال
في الدجى منك عادني لذاب مع الأنفاس قلب
بأضلعي
يضم هذا الديوان سبع عشرة
قصيدة متنوعة في موضوعاتها، مزج في بعضها بين الخاص والعام:
اخلعي ثوب الحداد
وارتدي ثوبا جديد
كلنا للموت يمضي
من قريب أو بعيد
نجمنا حتما سيخبو
شمسنا حتما تغيب
رغم بروز البعد العاطفي بطابعه الرومانسي الحالم:
(ميلاد حب)
إني أفكر مرتين
أن نمتطي متن السحاب
ونختفي في جفن عين
ونذوب في ثوب النسيم
ونلتقي في نسمتين...
وقد راوح في هذا الديوان
بين الشكل الموسيقي التقليدي المتمثل في وحدة الوزن ووحدة القافية:
لأني أكره طيف الخريف
وأكره صوت رذاذ المطر
وأكره فيه اكتئاب الحياة
وصوت الرعود وعنف القدر
وأكره فيه ذبول الزهور
وموت الحياة وموت الشجر
سأمضي لألحق ركب الربيع
سأمضي لأقتل هذا الضجر
و بين الشكل الموسيقي
المعاصر شعر التفعيلة أو الشعر الحر:
لا تطلبي مني السفر
البيت أنتِ حبيبتي
أنتِ الحقول المزهرة
البيت أنتِ حبيبتي
أنتِ الرياض العامرة
وأنا الذي يهواكِ
أنتِ حبيبتي
أنتِ الوطن...
والشاعر بهذا التنوع يجمع
بين الأصالة و المعاصرة... وهو ما جعل قصائده تتسم بالرقة والعذوبة، فضلا عن عمق
المعاني، والصور الشعرية المكثفة بإشراقاتها الساحرة النابضة بالحياة والحيوية،
على نحو حقيقي أو مجازي في حالة من التماهي بين صورة المحبوبة والكواكب والنجوم:
فمن قصيدة (عيناكِ ترقصان
للقمر):
ـ (عيناكِ نجمتان ترقصان
للقمر
وتبسمان للطيور للزهور
للشجر)
ومن قصيدة (لأني أكره
الخريف):
ـ (أفي وحدتي سيكون انسجام
أفي غربتي سينير القمر؟)
ومن قصيدة (أنا وأنتِ):
ـ (أنا وأنتِ
نجمتان على الطريق
نجم توهج بالضياء
وبالبهاء
يلقي على الأشياء سحرا
عندما يأتي المساء)
والمتمعن في القصيدة التي ختم بها الديوان
(لحن جنائزي) يكتشف أن الشاعر استعان في صياغته الشعرية على الأسلوب القصصي مما أكسبها
ملامح إنسانية، أضفت على النص حياة وحيوية، رغم أنها تصف مشهدا جنائزيا:
تتلاصق الأكتاف والأيدي
على صمت رهيب
صمت يقطِّعه البكاء
أو النحيب
الركب يزحف في السكون
وفي الظلام
عجز الكلام عن الكلام
الكل ينظر للطريق
الكل ينظر للذي
ما عاد يحمله الطريق...
والملاحظ هنا أن هذه القصيدة هي أطول قصائد
الديوان، ورغم أن هذا يجعلها تجنح للاهتمام بالفكرة، ومخاطبة العقل؛ إلا أن البنية
السردية هنا لم تأتِ أبدا على حساب العاطفة والوجدان؛ فقد استطاع الشاعر بمفرداته
المنتقاة أن يبعث فيها نبضا عاطفيا مفعما بالإيحاءات و الدلالات الثرية.
إن من يمعن النظر في هذا
الديوان، يجد أثراً واضحاً لمهنة الشاعر وانعكاساتها على تجربته الشعرية؛ فالعلاقة
جد قوية بين الطب والشعر، من خلال البعد الإنساني في طبيعة كل منهما: (الطب يعالج
الأبدان، والشعر يخاطب الوجدان).
*****
(4)
تسامي و تسامق الصور الشعرية
قراءة في ديوان (كيف أكون نبيا) للشاعر/ حسن مأمون
(كيف أكون نبيا) عنوان يحمل دلالات فنية
رمزية خالصة، تضع إطارا عاما للرؤية الشعرية في الديوان كله، الذي يعبر عن واقع
مؤلم:
كيف أكون نبيا
يا سيدتي
وأنا مشغول بالمأوى
ليل نهار
أبحث عن مرسى
عن شطآن
...
كيف أكون نبيا
يا سيدتي
وأنا في وطن
تلفُظُه كلَّ الأوطان
هذا الأسى والحزن الذي يطغى على ملامح تجربة
الشاعر، جاء تعبيرا عن أزمة الإنسان الذي يسعى لتغيير هذا الواقع، متسلحا بمشاعر
الحب؛ فمن قصيدة (السفر إلى بلاد القمر):
فأطوي المسافة
تلو المسافة
وتسبقني الخطى العاشقة
لتسبق شوق النهار
لرؤية هذا الصباح
والفُستُقة
يغني على شفتيَّ الصباح
يذوب الكلام المباح
ويخرج للنور
كلُّ الكلام المحاصر
وكل الحروف التي تحتويكِ
وكل الصور
ـ ومن قصيدة (الحب لا يوصد
بابه):
نتمنى لو يبقى العالم
مغتبطا
وتميط عن القلب عذابه
ترسم مجدا للنور
وتخترق الأزمان جهادا
وتمزق للشيطان ثيابه
نتمنى لو كل الناس
سكارى بالحب
ترتشف من شفتيه رضابه
وتتماهى ملامح الواقع الخاص مع الواقع العام
في قصيدة (حين يتحول الصبار)؛ لتشكل بعدا عاطفيا يجمع بين المحبوبتين (الأنثى
والوطن):
أنتِ رجاء القلبِ
حين يلفني
صمت الدُّجى
ويصيبني بدوار
أنتِ السنابلُ
عاشقاتٌ أرضها
والأرض حولي
يحتويها بوار
...
فكفى دموعا
وارتضي الأعذار
فلربما يا صغيرتي
تتغيرُ الأقدار
إن السياحة الممتعة بين صفحات هذا الديوان
الرائع بقصائده الست عشرة، تؤكد حقيقة تمكن الشاعر من تجسيد رؤيته الشعرية،
مستخدما اللغة والصورة بفنية بارعة؛ منها على سبيل المثال:
(تهرب مني عصافير روحي)،
(تبعثر حلمي في المستحيل)، (يغني على شفتيَّ الصباح)، (يذوب الكلام
المباح)،(محمولا على كف الزمان بلا كيان)، (تتمنى لو ظل القمر يحادثك طويلا)،
(تصارع موج الكآبة، تفتح للوجد طريقا؛ قد يُرجع للوطن شبابه)،(لملم أشلاء الروح)،
(تتكسر أجنحتي حين ألامس وجه الحلم)،(ما أقسى أن يحملني قطار الغربة دون توقف)،
(يكسو بالعري جمال الحقيقة)، (يفك القيود فتنساب كل الردود طليقة) (الحب قصيد لا
يوصد بابه)، (قدمت مساءاتي قربانا للوجد الساكن في عينيك)، (أذبت كياني في
شفتيك)،(أقمت بقلبي مدن العشق)، (جعلت فؤادك لي وطنا)، (طلبت لجوئي إلى عينيك)،
(أتوضأ بالطهر)،(تحملني أجنحة النور)، (كل النجيمات حبلى بعشقي)، (تهدهدني بليالِ
الوجل)، (انسكبي نورا قمريا يغسلني من وهج المدن الحجرية)، (بعثنا مع الشمس
أحلامنا)،... وهكذا تتسامى وتتسامق الصور الشعرية، لتصل إلى مرتبة الشمس،
والنجوم...
لقد عول الشاعر على تلك
الصور البديعة في تجسيد رؤيته الشعرية، مستلهما حسه الاستباقي رافعا سيف القصيد،
اتساقا مع الحكمة الشهيرة: (رب كلام أقطع من حسام)؛ فجاءت قصيدته (التماثيل) معبرة
عن مشاعر الاستياء والغضب، بسبب صمت العرب تجاه ما يحدث في القدس الشريف:
تماثيل... تماثيل
والقلب منكسر قتيل
ودموعنا الثكلى
تغطي
قبة القدس الشريف
...
زمن يعاتبنا
فلا شبيه ولا مثيل
وأظافر الأيام
تلهو في مشاعرنا
نخوة ماتت
وقهر يستطيل
*****
(5)
... ويبقى الشعر
قراءة في ديوان (مرسى العشاق) للشاعر الراحل/ علي نور الدين
يضم هذا الديوان بين دفتيه سبعا وخمسين
قصيدة من الشعر (العمودي)، تخللتها ثلاث قصائد فقط بالعامية المصرية، وكأننا إزاء
حالة من التدفق الشعري الذي انبثق من نفس الشاعر؛ فأراد أن يبقيه أثرا نابضا
بالحياة، بادئا بقصيدته (الحب السابق) التي تعبر عن رؤية مستقبلية للمصير الذي
لقيه بعدها بعدة شهور، والذي هو مصير جميع الأحياء:
ـ ودعت حياتي في لحظة وتركت الدنيا من خلفي
ثم يوجه حديثه إلى القارئ
من خلال قصيدة (الحب لا يموت):
ـ يا صاحبي تأمل نهاية
الحياه وكل شيء فيها لا بد أن ننساه
ولأن الحب لا يموت؛ فقد
استطاع الشاعر أن يترك العديد من القصائد المعبرة عن أحاسيسه ومشاعره، من خلال بنية
فنية ممغنطة بالانفعال الصادق؛ فمن قصيدة (بريق الحب):
ـ من أجلكِ أكتب
أشعاري وأبوح إليكِ بأسراري
وأراكِ بعين ذابلة لؤلؤة في قلب محارِ
ومن قصيدة (لماذا عشقت؟):
ـ أراكِ فتحلو لعيني الحياة وترتاح عيني بطول النظر
ويسأل قلبي كيف أراكِ فإني أرى فيكِ نور القمر
وأسمع همسا يقول:
انتظر سآتي إليكَ بأحلى الصور
وأزداد حبا وشوقا
إليكِ وأسعد جدا بهذا الخبر
فإذا اعتمدنا تأويل النص ـ بعد الرحيل ـ
يمكننا إسقاطه على حور العين، التي ازداد حبه وشوقه إليهن، و أسعده جدا خبر مجيئهن
إليه بـ(أحلى الصور) في جنة الخلد بإذن الله...
والمدهش أن هاجس (الرحيل) ظل مسيطرا على
العديد من قصائده؛ فمن قصيدة (يوم اللقاء):
ـ أيها الباكي على عمر
مضى أنت لا تدري متى يوم اللقاء
لا تُضيّع عمرك الباقي
سدى في أنين وعذاب و بكاء
ومن قصيدة عنوانها
(الوداع):
ـ انتظرني يا قطارا كي أرى
وجه الحبيب
واسأل الأيام عني واسأل
الصمت الرهيب
وينهيها بـ: والآن آن لنا
الوداع الآن آن لنا الوداع
ومن قصيدة (الحب الصادق):
ـ إن كنت تريد الحب
الصادق فاتبعني نحو الآفاق
فهناك الحب سيجمعنا ونذوب هناك مع الأشواق
ونعيش حياة هادئة خالية من لهو العشاق
حياة صادقة حقا وبعيدا عن أي نفاق
ولأن تجربة الشاعر تجربة تعبيرية لافتة، تراهن
على تصوير المعاني المرتبطة بكينونة الإنسان الوجودية؛ فقد جاءت بغير افتعال،
انطلاقا من مبررات أخلاقية ودينية، بأسلوب دعوي غير نمطي؛ فمن قصيدة (تذكر):
ـ تذكر يوم ولدت ضعيفا بغير ثياب وعاري البدن
وأول صوتك كان البكاء كأنك تخشى صراع الزمن
ـ فهيا تذكر و لا
تتجبر فإن المصير يثير الشجن
وأن الحياة لدار
اختبار ويغريك فيها بريق الفتن
ـ وسوف تغادر تلك
الحياة وتخرج منها بذاك الكفن
فأقبل على الله عبدا
مطيعا بقلب سليم ووجه حسن
وإذا كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم
قد ضرب أروع الأمثلة في ارتباط الإنسان بوطنه، عندما رحل عن مكة المكرمة إلى
المدينة؛ فقال: "والله إنك لأحب البلاد إلي الله وأحب البلاد إليَّ ولولا أن
قومك أخرجوني منك ما خرجت"؛ نجد شاعرنا قد عبر في أكثر من قصيدة عن ارتباطه
بوطنه (أم الحضارة)، و(مصر التاريخ) حيث يقول:
تجلى الله على مصر حقا وكلم موسى على أرضها
وكانت بشارة خير لمصر ومصدر خير لمن حولها
وأرض السلام لمن زارها وسهل خصيب على نيلها
وقد زارها صفوة
الأنبياء وعاشوا بها بين أبنائها
وقد أشار إلى ما يفعله
الإرهاب من إساءة للدين و تخريب للوطن؛ في مطلع قصيدة بعنوان (أعداء الدين):
ـ أعداؤكم يتربصون
بدينكم فتنبهوا يا أمه الإسلام
ومن قصيدة بعنوان (لستم
يهودا) يدافع فيها عن فلسطين:
ـ لستم يهودا ولستم
نصارى ولستم أيضا من المسلمين
فأنتم وحوش تعاني
السعار ولا تنتمون إلى أي دين
فإن كنتم ترغبون
السلام فأعطوا الحقوق إلى الصامدين
وكفوا عن الحرب والقتل
حتى نعيش على أرضنا آمنين
وقد خصص الشاعر بعض قصائده لانتصار مصر في
حرب اكتوبر منها قصيدة بعنوان (نصر أكتوبر)، و قصيدة بعنوان (ذكرى أكتوبر المجيد)،
التي منها:
ـ ومنذ انتصرنا نعيش
كراما لنحيا كراما على أرضنا
فهيا لنصنع مصر الرخاء لتحقيق آمال أبنائنا
ولن نترك الأرض
للمعتدين من الغاصبين لها ولنا
ومن يستعيد جمال
العبور يرى فيه فخرا لأجيالنا
ويترك شاعرنا وصيتة لقادة العرب من خلال
قصيدة بعنوان (الاتحاد قوة):
يا قادة العرب انهضوا
وتوحدوا فعدوكم يسعى لشق صفوفكم
وتعاونوا وتمسكوا
بتراثكم وتجمعوا من أجل رفعة شأنكم
لا تلهكم أموالكم عن
دينكم فالدين مصدر عزمكم وثباتكم
لقد استطاع الشاعر بتعدد موضوعات ديوانه،
وصدق تناوله، وحسن صياغته؛ أن يُحدث تواصلا فكريا حميما مع المتلقي، معبرا عن
هواجسه وأوجاعه، آلامه و آماله، رؤاه ووصاياه... هذا التواصل الإنساني أدى إلى
تفاعل وجداني مؤثر وفعال، وصنع جسرا عبر بشعره نحو الخلود...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاتمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه لبنة من لبنات رؤيتي المتواضعة في
الدواوين الخمسة، معترفا بأني لم أتناول كل ما زخرت به تلك الأعمال الأدبية من
معان ودلالات، ذلك لأن كل قراءة تكون محكومة بزاوية التلقي... وهو ما يستدعي جهود
المهتمين، لبناء صرح نقدي شامخ واضح المعالم لهذه الدواوين الخمسة، التي تُعد
بمثابة ظاهرة شعرية تستحق أن نقف طويلا عندها، ونلقي المزيد من الضوء عليها، من
زوايا عديدة؛ لاستكشاف عوالم كل منها، والوقوف على المزيد من مكامن القوة،
والإشارة إلى بعض مواضع الضعف، على اعتبار أن (النقد): هو قراءة تصحيحية للأدب
بشكل عام.
متمنيا أن أكون قد وفقت في
قراءتي المتواضعة، مع خالص تمنياتي الطيبة للجميع بمزيد من التقدم على درب الإبداع
والتميز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتهى البحث ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ