افتتاح ستديو تصوير أطلقت عليه اسم (أحلى
الذكريات):
ما عدت من رحلتي إلى العراق إلا بما يكفي فقط
لتجهيز محلي الجديد و الذي كانت مساحته لا تتعدى أربعة أمتار × ثلاثة أمتار و نصف؛
فاستطعت استغلال تلك المساحة البسيطة أفضل استغلال، فضلا عن عمل فترينات عرض
خارجية و لافتة كانت اللمسات الفنية واضحة جلية عليها...
و عقب الافتتاح جلست منتظرا الزبائن؛ فأدهشني
أن كان أول هؤلاء: مأمور ضرائب، تبعه مفتش تأمينات اجتماعية، تبعه مفتش مكتب
العمل، تبعه مفتش من الأمن الصناعي، تبعه محصل من الضرائب العقارية... ذلك كله في
اليوم الأول و قبل أن يدخل محلي زبونا واحدا و بالتالي لم يدخل جيبي مليما
واحدا!...
و كان لزاما عليَ طبقا لنصائح و تعليمات و
أوامر الضرائب و التأمينات و الأمن الصناعي أن أغلق محلي لعدة أيام؛ أسعى خلالها
لإنهاء الإجراءات المطلوبة، و هو ما قمت به وقتها و الحمد لله...
تنفست الصعداء بعد عدة أيام من السعي بين
أروقة المصالح الحكومية، ثم عاودت فتح باب الرزق، الذي فوجئت بمن يتحرك أمامه جيئة
و ذهابا و في يده شريط يقيس به أبعاد الواجهة و طول و عرض فترينات العرض و
اللافتة؛ فخرجت مستعلما؛ فأجابني أنه مسئول التنظيم بالوحدة المحلية... و هو يقيس
تلك الأبعاد لتحديد المبلغ المطلوب للترخيص السنوي لفترينات العرض و اللافتة؛
فاستسمحته أن يلغي كل ما كتب و أن يسمح لي بإغلاق المحل تماما و يا دار ما دخلك شر،
و قررت بالفعل أن أنهي هذا النشاط الذي لم يبدأ أصلا إلا بتلك الهجمة الشرسة من
موظفي الحكومة، إلا أنه هدأ من روعي، و بسط الأمر أن رسوم الترخيص السنوي لن تتعدى
بضعة جنيهات، و وعدني ألا يتخذ أي إجراء قبل أسبوع، يكون خلال تلك المدة قد أكرمني
الله و أذهب إلى الوحدة المحلية لعمل الترخيص المطلوب... و هو ما تم بالفعل...
مع بداية النشاط كان من الطبيعي أن أتعرف على
الجيران (أصحاب المحلات المحيطة و المقابلة، و من خلال هذا التعرف أدهشني أن بعضهم
يظهر للآخر ما لا يبطن؛ فعمدت لتنفيذ فكرة لمعالجة هذا الخلل في العلاقات غير
السوية، و رغم بساطة تلك الفكرة إلا أنها كانت عميقة الدلالة و الأثر، و مفادها أن
نأكل مع بعضنا البعض (عيش و ملح) بالمعنى الحرفي للكلمة و ليس بالمعنى الرمزي؛ ففي
الصباح و عند افتتاحنا للمحلات، نجتمع عند واحد منا ـ بالتناوب ـ ليكون في
استقبالنا برغيف من الخبز (أو قرصة سادة) و حصوات من الملح (أو الدُقة)؛ فيقتطع كل
واحد منا لقمة صغيرة يغمسها في الملح و نأكلها... ثم نبدأ معا بالصلاة و السلام
على نبينا محمد صلى الله عليه و سلم بالصيغة: (صلى الله على محمد، صلى الله عليه و
سلم) ثلاث مرات، نتبعها بقراءة الفاتحة كل هذا بصوت موحد، ثم نصافح بعضنا بعضا، و ينصرف
كل منا إلى محله، في انتظار رزقه...
و ليس هناك من شك في أن ما حدث بعد ذلك من
مواقف يؤكد حقيقة وجود الخير الكامن في نفوس البشر، و الذي ظهرت تجلياته على نحو
أرقى فيما تلى هذا التقليد اليومي البسيط؛ ففي يوم جمعة، خرجنا من المسجد بعد أن
تأثرنا بما ذكره الخطيب من فضل عيادة المرضى و المصابين و الدعاء لهم بالشفاء، و
فضل جبر خاطر المعوزين و الفقراء و مد يد المساعدة إليهم...
فاجتمعت أفئدة البعض على ألا نذهب إلى بيوتنا
قبل أن نعاود مرضي و نساعد محتاجين؛ و قد بدأنا بزيارة المستشفى المجاور للمسجد، و
هناك علمنا بوجود حالة ينطبق عليها وصف الإصابة و العوز في آن واحد، و هي حالة رجل
كان يتخذ من عربته الكارو وسيلة وحيدة للارتزاق، و تعرض لحادث مات فيه حماره، و
تهشمت عربته، و أصيب هو بالعديد من الكسور و الكدمات، فضلا عن كونه في الأصل كان
معوقا، و ظروفه المادية لا يعلم بها إلا الله... توجهنا إليه، و قدم كل منا ما
أمكنه من مساعدة، مع خالص الدعاء بتمام الشفاء، و هناك فوجئنا بوجود من سبقنا، ثم
من لحقنا لزيارته و تقديم العون إليه...
تلك الشحنة الإيمانية التي غمرتنا، زاد من
قوتها و فعاليتها النبيل الكريم عمي الحاج عبد اللطيف عجيزة الذي اقترح علينا
عيادة اثنين ممن ليسوا في حاجة إلا للدعاء، التخفيف عنهم بتلك الزيارة التي ربما
ترفع من روحهم المعنوية، و تجعلهم أكثر قدرة على ما ألم بهم مرض ـ عافانا الله
وإياكم منه ـ و قد كان؛ فزرنا عمي الحاج أحمد الدمهوجي، و عمي الحاج محمود أبو سعد
(رحمهما الله)، و رحم الله الذين رافقونا في تلك الزيارات الثلاث: عمي الحاج محمود
مغربية، و عمي الحاج عبده أبو رمضان... و أمد الله في عمر عمي الحاج عبد اللطيف عجيزة،
و عمي الحاج محمد الدرديري...
و من الطريف أن تمر الأيام سراعا، لأرى أثناء
سيري الرجل الذي سبق أن زرناه في المستشفى و هو يسبقني بعربته الكارو صائحا بصوت
عالٍ في حواره مع من يركب معه:
ـ "الله يلعن أبو اللي معاهم فلوس أولاد
كلب..."
ثم نظر خلفه فرآني، فأكمل عبارة السب و اللعن
بـ:
ـ "بس فيهم ناس طيبين"!.
نعود إلى تلك الحقبة الماضية من الزمن الجميل
حيث الحياة وقتها أوائل ثمانينات القرن الماضي كانت بسيطة، و رغم أن محلاتنا كانت
تقع في أكبر شوارعها و أكثرها رواجا و حركة مرورية؛ كنا نستطيع ممارسة لعب كرة
القدم في أوقات الظهيرة و في المساء، دون أن تزعجنا حركة السيارات أو المارة، تلك
الحركة التي لم تكن على نحو ما هي عليه الآن من تكدس و ازدحام...
تلك الذكريات التي أرويها الآن بعد مرور
حوالي 37 عاما؛ بقدر ما تثير في نفسي مشاعر الإخوة الصادقة التي جمعتنا، بقدر ما
تثير مشاعر الحزن على فراق الراحلين منهم...
و هنا تبرز تلك الحادثة المفجعة التي وقعت
على طريق الموت (منية النصر ـ دكرنس) و راح ضحيتها شقيقي محمود الذي كان بمثابة
الأب البديل لأسرتنا؛ فأحدث هذا صدعا رهيبا في نفوسنا جميعا...
فأضحيت في حالة من الحزن الشديد لم يخرجنا
منها إلى شقيقي الأصغر، الذي منحني جهاز كمبيوتر لأنشغل به و أحاول تفريغ طاقتي
الأدبية من خلال الكتابة عليه... و هو ما تم بالفعل...
و لأن (دوام الحال من المحال) فقد حدث بعد
عدة أعوام أن تم بيع المنزل الذي فيه محلي إلى مالك جديد، و هنا تجدر الإشارة إلى
عبارة أخرى مفادها: (نحن
نعيش أقدارنا)
لقد كنت عاشقا للقانون، و حضرت أوائل السبعينات من القرن
الماضي محاضرات عديدة في كلية الحقوق جامعة عين شمس وقت أن كان المرحوم الاستاذ الدكتور
سليمان الطماوي عميدا لهذه الكلية العريقة ـ دون أن أكون طالبا فيها ـ برفقة شقيقتي
( رحمها الله ) التي كانت تكبرني بعامين، و نهلت من معين مكتبتها الزاخرة بكتب
القانون، حتى أصبحت أتناقش فيها، و أبادلها المعلومات عنها...
صحيح أن هذا أفادني مستقبلا في حياتي العملية، خصوصا
عندما أصبح اللجوء للقضاء أمرا ضروريا، وقت أن تعرض محلي المستأجر و معي محلات جيراني
في ذات العقار لمحاولات من الملاك الجدد لطردنا منها، و كانت لتلك الخلفية
القانونية، فضلا عن القدرة على الصياغة الأدبية، و قبل هذا و بعده توفيق الله
سبحانه و تعالى؛ الفضل الأكبر في الأحكام التي صدرت وقتها لصالحنا...
و هنا يبرز سؤال مهم: ماذا ( لو ) كنت انتظمت في تلك الكلية
و تخرجت فيها؟... إن "كلمة ( لو ): تفتح عمل الشيطان"!...
أعود إلى ما كنا قد توقفنا عنده، و هو ما
انتهينا إليه من اتفاق مع المالك الجديد الذي كانت لديه رؤية صائبة، و أسلوب مناسب
يرضي جميع الأطراف بعيدا عن تلك الأساليب التي اتبعها سابقه، و هو ما تم بالفعل...
و عندئذ أجدني أقف مرة أخرى في مفترق طرق؛ فماذا حدث بعد هذا؟.
تأتي الإجابة في الجزء السادس بإذن الله