شاعر
الأطلال كان أحد ظرفاء عصره
د/
إبراهيم ناجي في ذكرى وفاته الـ67 (24/3/1953)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/
مجدي شلبي (*)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــ
مقدمة
ـــــــــــــــ
لقد أكد الشاعر الدكتور/ إبراهيم ناجي
بسيرته الأدبية أن هناك قواسم مشتركة بين الطب والشعر, بين معالجة الأبدان ومعالجة
الأرواح باعتبارها علاقة تكاملية؛ فالإنسان روح وجسد، ومن ثم فتمام الصحة تعني
سلامة البدن والعاطفة معاً...
وقد
لخص شاعرنا هذا المعنى في أبيات قال فيها:
الناس
تسأل، والهواجـس جمة *** طب و شــــعر كيف يتفقـان
الشعر
مرحمة النفوس وسره *** هبة الســماء ومنحـة الديـان
والطب
مرحمة الجسوم ونبعه *** من ذلك الفيض العلي الشان
ـــــــــــــــــــــــــ
الطبيب
الشاعر
ـــــــــــــــــــــــــ
من هذا المنطلق كان طبيباً إنسانا مع
المترددين على عيادته ـ خصوصاً من الفقراء والمعوزين ـ فكان غالباً ما يكشف عليهم،
ويمنحهم تذكرة الدواء بلا مقابل، كما كان متوافقا مع صيدلية الحداد أسفل عيادته،
على أن تقدم الدواء للفقراء من مرضاه وتضيف ثمنه على حسابه... وكان يؤكد دائما على
حقيقة أن بداية الشفاء تكمن في الإصغاء إلى متاعب المريض، وفي بذل العطف الصادق له.
ومثلما كان طبيبا رفيقا؛ كان شاعرا رومانسيا
رقيقا؛ فصدر له أربعة دواوين: وراء الغمام (1934)/ ليالي القاهرة (1944)/ في معبد
الليل (1948)/ الطائر الجريح (1953). ثم صدرت أعماله الشعرية الكاملة في
عام 1966 ـ بعد وفاته ـ عن المجلس الأعلى للثقافة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تأثير
مدرسة (أبولو) على أشعار ناجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد
تأثر شاعرنا بالمدرسة الرومانسية لجماعة أبولو؛ تلك المدرسة التي انتمى لها؛ فعبر
عن حالة الحب المفقود تعبيراً صادقا وأمينا:
*
فيقول في إحدى قصائده:
كلانــا عليــل فلا تجـزعـي *** ودمعك
تســبقه أدمـعي
وإن كان بين ضلوعك نار *** فنار
الصبابة في أضلعي
وإن كـان نجم هنائك غاب *** فنجــم
هنائـيَ لـم يطـلع
*
و من قصيدته (ذات ليلة):
بين
سهد وعذاب ورضى *** مر ليلـي ذاك حالـي وأنا
*
و من قصيدة (الزورق يغرق والملاح يستصرخ):
أين
شط الرجاء *** ياعباب الهمـوم
ليلتــي
أنــواء *** ونهــاري غيــوم
*
ومن قصيدته (الختام):
لهفي
على الناقوس بين جوانحي *** وعلــى بقيــة هيكــــــل لا تصـلح
لا
فــرق بيــن أنينـــــه و رنينـــه *** وصـداه فـي وادى المنية أوضــح
ــــــــــــــــــــــ
وفاء
وانتماء
ــــــــــــــــــــــ
لقد عاش شاعرنا في أول حياته في مدينة
(المنصورة) عاصمة محافظة الدقهلية، ورغم أنه لم يستقر بها طويلاً؛ إلا أنه حن
لزيارتها؛ فوجدها قد تغيرت عما كانت؛ فكتب فيها قصيدة عنوانها (المنصورة) منها:
أيـن الهــدوء المرجى فــي
جوانبهــا *** إنـــي رجعـت و ليلـــي كلـــــــه أرقُ
أقبلـتُ أنشـــد أمنـا فـي هــواك
بهـــا *** فلــــم أنـــل و تولــى قلبــي الفــــرقُ
لا بالقـلــوب و لا الأرواح يا
أملـــــي *** إنَّــا بشــــــيءٍ وراءَ الـروحِ نعتنـــقُ
هذا وقد انعكس تدفق شعوره نحو وطنه (مصر) في
عدة قصائد تفيض حبا لها ودعوة لافتدائها، منها قصيدة (مصر) التي جاء فيها:
أجـل
إن ذا يـوم لمـن يفتدي مصــرا
فمصر
هي المحراب و الجنة الكبرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(شاعر الاطلال) أحد ظرفاء عصره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا شك أن ملحمة الأطلال (132 بيتاً) التي
شدت سيدة الغناء العربي أم كلثوم بـ 22
بيتاً فقط منها، ممزوجة بسبعة أبيات من قصيدة الوداع؛ هي القصيدة التي جعلت اسم الشاعر
د/ إبراهيم ناجي مدونا بحروف من نور في قلوب العشاق والمحبين، وغيبت عن الكثيرين الجانب
الهام من جوانب شخصيته باعتباره أحد ظرفاء عصره:
*
فقد رأى يوماً فقيها ضريراً يمسك بيده مسبحة كهرمان ويغني طقاطيق منيرة المهدية؛
فقال ناجي:
ـ
هذا الرجل يقلد (منيرة المهدية) تقليداً (أعمى)!
*
و ذات مرة كان ناجي مدعواً إلى حفل وكان معه صديق أسود؛ فلما طال المقام أراد
الانصراف، لكن صاحب الحفل طلب منه أن يبقى إلى طلوع النهار؛ فالتفت ناجي إلى صديقه
الأسود و قال:
ـ
إنت يا أخي مش ناوي تروّح علشان النهار يطلع!
*
دُعِيَ ناجي إلى حفل عقد قران أحد أصدقائه وبينما كان المدعوون جالسين مع المأذون
بانتظار العريس دخل أحدهم و قال:
ـ
العريس واقف بره سكران!؛
فرد
ناجي على الفور:
ـ
الحقوا هاتوه قبل ما يفوق!
*
ذات مرة نقد الدكتور طه حسين الشاعر إبراهيم ناجي فقال:
ـ
(إنه طبيب الأدباء و أديب الأطباء)!؛
فعلّق
ناجي على هذا النقد القاسي بروحه المرحة قائلاً:
ـ
أنا من هنا ورايح ها كون طول النهار مع (الدكتور طه حسين) و (الدكتور طه بدوي)
علشان أحس إنني أديب... هو مش قال إنني أديب بين الدكاترة!
*
كان ناجي يجلس ومجموعة من أصدقائه منهم محمود تيمور وإبراهيم المصري ومحمد أمين حسونه
وغيرهم في جروبي عدلي، ودخل عليهم عبد الحميد الديب وتناول ناجي بكلام بذئ، لم يرد ناجي عليه في حينه ـ ليس عجزاً وإنما
ترفُّعاً ـ ولم يتمالك شيطان شعره أن يمر الموضوع ويمضي صاحب الإساءة بإساءته؛
فأطلق عليه هجاءه على نحو:
رجـلاً
أرى بالله أم حشـرة *** ســـبحان مـن يعيـده حشـره
يا
فخر "داروين" و مذهبه *** و خلاصة النظرية القذرة
أرأيت
قردا في الحديقة قد *** فلتـه أنثــاه علــى شـــــجرة
عبد
الحـميد اعلـم فأنت كذا *** ما قال دارويـن و ما ذكـره
يا
عبقرياً في شـــناعتـه *** ولدتــك أمــك وهـي معتـــذرة
*
و قد هجا ثانِ ببيت شعر قال فيه:
قد
هنأوك بمجد الأسباني *** فمتى تكون مصارع الثيران؟
*
في خطاب وجهه إلى عبد العظيم عبد الحق بك وزير التموين، نشرته مجلة
(الاثنين والدنيا)، تحت عنوان (قصيدة تموينية):
إن «جاز» أني شَـــاعرٌ فأراك في
«التموينِ» أشعرْ!
لمـــــــا ندبـتَ لـــهُ
هتَــــفْـ تُ مكــرراً: اللهُ أكــبـــرْ
سيفيضُ في ساحاتهِ «الــ بترولُ»
والشَّهْــدُ المُكرَّرْ
ويـذوبُ فيـــه النَّــاسُ طُــرًّا
هائمينَ فأنتَ سُــــكَّرْ
ويروا «دقيقَ» الفهْـمِ لمّـ احَ
البصيرةِ حيـــنَ فكَّرْ
أنا منْ مدحتُك صَـــادقاً عقلاً
مضيء الفكـرِ أزْهَــرْ
و«بطـاقتي» وبكل جهــ دي قد
وصَـفتُ وأنتَ أكْبرْ
«عِشْ» للبــــلادِ فإنني بك ما
حييتُ العمْـرَ أفْــخرْ
«خُبزي» هَـــوَاكَ وإنني لك دائمـاً
أهْـــوى وأذْكـرْ
*
جلس ناجي إلى جوار فتاة حسناء وبدت عليه السعادة لذلك، وأراد أن يكلمها، لكنها أفهمته
أن أمها تجلس إلى جوارها؛ فقال و هو يولي وجهه عنها:
وغادة
تجلس في جانبي *** كأنها الزهرة في كمها
أبدع
ما تنظر عين امرئ *** وخيبـة الله على أمها
*
كان له صديق طبيب أسنان أرسل له يوماً هذه المداعبة اللطيفة:
يا
قُرّةَ العين يا ( تمليِّ ) *** يا واســع التدبيـر والحيــل
يا
خالع الضرسين في سنةٍ *** ومعقم الآلات في الحللِ
*
اتصل أحد الشعراء بالدكتور ناجي وكان لم يره منذ مدة و أنشده موال:
يا حلو مالك كدا هاجر و روحي فيك؟
فرد
عليه ناجي على الفور يكمل المقطع قائلاً:
التقل
شرعه كدا والحشمة والتكتيك!
*
وفى حفلة عرس بمنزل الوزير الأديب دسوقي أباظة؛ وجه ناجي دعابة إلى صديقه الشاعر
محمود غنيم، صاغها شعرا كان منها:
بصرت
به والصحن بالصحن يلتقى *** فلـم أر أبهــى مــن غنيــم وأظرفـــا
وأومـأ
لـي، باللحظ يســــألني بــــه *** أتعرفـه؟ أومـأت باللحظ مســــــعفا
وقدمتــه
للديـــــك وهــــو كأنمـــــا *** يطـــــير إليــــه واثبـــاً متلهفــــــــا
غنيم!
أخونـا الديـــك! قدمـت ذا لذا *** فهــــذا لهــذا بـعـــــد لأى تعارفــــــا
وماهـــي
إلا لحظـــــــة وتـغــــازلا *** وقــد رفعــا بعـد الســــلام التكلفــــــا
فمال
على الورك الشـــهي ممزقــــا *** ومـال على الصـدر النظيف منظــفـا
بتلك الروح المرحة، وحضور البديهة، وعظيم
الموهبة؛ استحق شاعرنا (د/ إبراهيم ناجي) ـ رحمه الله ـ أن يُلقب بشيخ الظرفاء، وطبيب
الفقراء، وشاعر الأطلال، الذي كان أيضا فيلسوفاً وأديباً وناقدا وكاتبا
ومترجما؛ فقد كان يجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية وإلقاء المحاضرات، وأنشأ رابطة
للأدباء الشبان يعلمهم فيها، ويفتح لهم آفاقا رحبة في سماء الشعر والأدب.
رحم
الله الشاعر الدكتور/ إبراهيم ناجي الذي ولد 31 ديسمبر 1898 ورحل 24 مارس 1953 مخلفا
تراثا شعريا خالدا، تتردد أصداء أبيات قصائده في كافة الأرجاء وبخاصة (الأطلال)
التي منها:
يا فؤادي، رحم الله الهــوى ***
كان صرحا مــن خيال فهـــوى
اسقني واشرب على أطلاله *** وارو
عني، طالما الدمــع روى
كيف ذاك الحب أمسـى خبراً ***
وحديثاً من أحاديث الجـــــوى
ومن
قصيدته (الوداع):
هل رأى الحبُّ سكارى مثلنا؟! *** كم
بنينا من خيالٍ حولنا
ومشـينا فـي طـريـــق مقـمـرٍ ***
تثبُ الفرحـةُ فيــه قبلنــا
وضحكنا ضحـك طـفلـينِ معـاً *** وعــدونا
فسـبقنا ظــلنـا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)
عضو اتحاد كتاب مصر
ـ تم نشر هذا المقال في جريدة القاهرة ـ الثلاثاء 24 مارس 2020
ـ و نشره موقع دنيا الرأي على الرابط التالي: