ثلاثية الجدل
والجدال في: (اللغة ـ الفلسفة
ـ الدين)
بقلم/ مجدي شلبي (*)
إن فعل (جَدَلَ) يعني في الأصل: فتل أو ضفر (جدَلَ: يجدل،
جَدْلاً، فهو جادِل، والمفعول مَجْدول وجديل)؛ كقولنا: (جدلت شعرها: ضفرته) على شكل
(جديل: محكم ومنظم بالمعنى المادي)، وقد تأتي (جديل) بمعني رمزي دال على التحكم
والرشد؛ يقول الشاعر عبد الله الخفاجي:
ولم تعرف
لمصعبها قيودٌ *** ولم يملك لشاردها (جديلُ)
وقد تأتي كلمة (جدل) بمعنى القوة والصلابة:
(جدل الولد: قَوِيَ وصلب عظمه)، وتأتي بمعنى الحسن (امرأة
مجدولة الخَلْق: حَسَنَتُهُ)؛ يقول الشاعر ابن الرومي:
طفلٌ أراد وصيفاً
كيّساً فبكى *** حتى أتاه مليح القدّ (مجدول)
هذه هي
الدلالات و المعاني المرغوبة لكلمة (جدل)، يقابلها على الجانب الآخر معان ودلالات
مذمومة؛ منها: (جدله أرضا: صرعه وغلبه)، ومنها (مجدلا: مُلقى على
الأرض قتيلاً) بالمعنى المادي؛ كقول عليَّ بن أبي طالب حين وقف على طلحة وهو قتيل؛
قال: "أَعْزِزْ عليَّ أَبا محمد أَن أَراك (مُجدلا) تحت نجوم السماء".
وبالمعنى المعنوي؛ على نحو قول الشاعر محمد
التلمساني:
بدويٌّ كم (جدَّلت)
مُقلتاهُ *** عاشقاً في مقاتل الفُرْسانِ
ومن مرادفات كلمة (جدل): (عَقَصَ)؛ نقول:
ـ (عقص أمره: لواه ولَبَّسَهُ)، (عقصت الدابة: حرنت) و(عقص الرجل: بخل وساء
خلقه)؛ يقول الشاعر أبو العلاء المعري:
لا نال خيراً
فتى أمست أنامله *** مداري السرح، موصولاً بها (العُقَص)
ويبدو أن
الغوص في أعماق لغتنا الجميلة؛ يدفعنا لاكتشاف مزيد من الدرر واللآلئ؛ فها هي
الطيور في السماء أيضا؛ لها حظ باهر من تلك الجواهر؛ فـ(حمام جدلي: أي حمام صغير
ثقيل الطيران لصغره)، و(الجَدَّال: من يحبس الحمام في الجَدِيلة)، و(الأجدل: هو
الصقر)؛ يقول الشاعر ابن حيوس:
إن حل بالوهد
كان الأفعوان وإن *** طَلَّ الربيئة كان (الأَجْدَلَ) القطِما
فإذا ما بحثنا
في واقع المناقشات والحوارات والمناظرات؛ وجدنا أن (الجدلي): هو من يستخدم جدل
محدثه، بغية مغالبته والتفوق عليه، وهو جدل لفظي: سفسطة، مماحكة؛ تؤدي لاشتداد الخصومة بالباطل، ويبدو أن
الإنسان قد جُبل عليها؛ يقول الحق في محكم التنزيل: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)
الآية 54 من سورة الكهف.
ورغم أن (الفلاسفة)
يعتبرون (الجدل): طريقة في المناقشة والاستدلال، من خلال انتقال الذهن من قضية
ونقيضها إلى قضية ناتجة عنها ثم متابعة ذلك حتّى الوصول إلى المطلق؛ فإن الحقيقة المؤكدة: أن كثرة الجدل
تُحبط الأمل وتهلك العمل، على نحو ما يوضحه (الجدل
البيزنطي): الذي "هو نقاش لا طائل تحته، يتناقش فيه طرفان دون أن يقنع أحدهما
الآخر، ودون أن يتنازل كلاهما عن وجهة نظره، مما قد يؤدي إلى اختلال في التوازن
الفكري لدى أحد الطرفين، أو ربما كليهما"؛ يقول الشاعر
نجيب سرور:
وما جدل الأقوام
إلا تعلة *** مصورة من باطل متوهم
ويقول الشاعر محمد
حسن أبو المحاسن:
أخو جدل في
جهده ظل يكدح *** يقولون قس قلت ضل قياسكم
ورغم ما يدعيه البعض من اختلاف بين (الجدل)
و(الجدال)، مشيرين إلى أن (الجدل: لا يكون إلا اعتراضا لمجرد الاعتراض، ويُراد منه
إلزام الخصم ومغالبته)، وأن (الجدال: مناظرة، يقصد
كل واحد من المتناظرين تصحيح كلام الآخر، وإبطال قوله، مع رغبة كلٍ منهما في ظهور
الحق)؛ إلا أنني أرى أن (الجدل) من (الجدال) قريب، وأن (الجدل العقيم)، صديق حميم
(للجدال الذي لا ينجب إلا الضلال)؛ يقول الشاعر محيي الدين بن
عربي:
فما ترى فيه
من جدال *** فإنه كلهُ ضلالُ
ويؤكد المعنى
قول الشاعر البوصيري:
فاترك جدالَ
أخي الضلالِ ولا تكن *** بمراء منْ لا يهتدي مشغُولا
ولأن أبواب
الضلال مشرعة أمام الجدال؛ يدخل الدفاع بالباطل منه؛ يقول الحق في محكم التنزيل
منذرا هؤلاء المدافعين الخائنين أنفسهم؛ بقوله تعالي في محكم التنزيل: (ها أنتم
هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون
عليهم وكيلا) الآية 109 من سورة النساء. وجاء تفسير الطبري لهذه الآية: "...
وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا، فإنهم سيصيرون في آجل الآخرة إلى من لا يدافع
عنهم عنده أحد فيما يحلُّ بهم من أليم العذاب ونَكال العقاب".
وهكذا نجد أهل
الجدال مثلهم مثل أهل الجدل؛ يجحدون بالحق استعلاء عليه واستمساكا بمواقفهم
الباطلة؛ يقول الشاعر أبو العلاء المعري:-
وأهل كل جدالٍ
يمسكون به، *** إذا رأوا نورَ حق ظاهرٍ جحدوا
ويوضح رسولنا
الكريم صلى الله علية وسلم مكانة من ترك المراء (الجدال) ـ وإن كان محقا ـ فيقول: (أنا
زعيم ببيت في ربَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن
ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) رواه أبو داود
بإسناد صحيح.
وقد نهانا
الحق في محكم التنزيل عن الجدال في الآية 197 من سورة البقرة: (الحج أشهر معلومات
فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه
الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب).
ووصف من يجادل
في آيات الله بالكفر؛ فقال سبحانه و تعالى في محكم التنزيل: (ما يجادل في آيات
الله إلا الذين كفروا) الآية 4 من سورة غافر
واتساقا مع هذه
الآية الكريمة؛ يقول الشاعر ابن مشرف:
فلا مراء وما
في الدين من جدل *** وهل يجادل إلا كل من كفرا
ويقول الشاعر
أحمد محرم:
الأمر جد ما
به من ريبة *** والبعث حق ليس فيه جدال
ويقول الشاعر
عبد الغني النابلسي:
لمتى أنت في
الضلال المبين *** سلم الأمر واعتصم باليقين
يا ابن يومين
لا تكن في جدال *** أنت كالبرق نشؤ حين فحين
وأوفق ما أنهي
به مقالي هذا؛ هو قول الشاعر أحمد فارس الشدياق:
أمن بعد هذا
المقال مراء *** وعادي جلاد وداعي جدال؟!
وقول الشاعر
أحمد شوقي:
لكَ نُصحي،
وما عليكَ جدالي *** آفة ُ النصحِ أن يكون جدالا
وكأنما الشاعر
أحمد فارس الشدياق يقصدني ببيت شعره!:
إذ لا يقول
سوى بنص أدلة *** ما بعدها للممترين جدال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو نقابة
اتحاد كتاب مصر
تم نشر هذا المقال في موقع دنيا الرأي على الرابط التالي:
https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2020/05/14/522293.html
تم نشر هذا المقال في موقع دنيا الرأي على الرابط التالي:
https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2020/05/14/522293.html