جدلية الطموح
والمعاناة
قراءة في رواية (كفر ميت وطواط) للكاتب أ/
نبيل عبدالرحمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ مجدي شلبي (*)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة
أردت من خلال هذا العنوان "جدلية
الطموح والمعاناة" الإشارة إلى العلاقة المعقدة بين الأحلام والواقع، والتعبير
عن عمق الصراع الذي يدور بين الآمال والطموحات التي تسعى الشخصيات لتحقيقها، والمعوقات
الاجتماعية والمادية التي تواجهها، وهو ما تعكسه القضايا المركزية التي تناولتها
هذه الرواية، على نحو يؤكد ارتباط الكاتب ببيئته الريفية، وقدرته على التعبير عن
أدق تفاصيلها بأسلوب يتسم بدمج الدراما الاجتماعية مع السخرية، في (كوميديا
تراجيدية) سوف أشير إليها بشيء من التفصيل عند الحديث عن الأسلوب الذي انتهجه
الكاتب في عرض روايته، التي تناول فيها قضايا اجتماعية مهمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القضايا الاجتماعية التي تناولتها الرواية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد تناولت هذه الرواية قضايا اجتماعية
عديدة، منها على سبيل المثال:
ـــ قضية الاختيار الصعب بين الحب والمادة:
حيث وجدت (عبير) نفسها أمام مفترق طرق، بين
شاب تحبه بكل صدق (علي) لكنه فقير الحال، وبين آخر يستطيع أن يوفر لها حياة مريحة،
لكنه يفتقر إلى مكانة الحب في قلبها، وهو ما يدعو القارئ للتفكير العميق في موضوع المال
والحب، الفقر والقدرة على مواجهة متطلبات الحياة المادية.
ـــ قضية الهجرة غير الشرعية:
وهي تمثل ركوب الخطر للخروج من دائرة الفقر،
لكنها غالبا ما تنتهي بكوارث، مما يعكس العبثية التي تعيشها الشخصيات، وما تخلفه
من مآسٍ حقيقية تعاني منها العائلات الريفية، والشاهد من الرواية؛ ذلك الحزن الذي يخيم
على (سليمان الدسوقي)، الذي: " فقد ابنه
الوحيد في رحلة هجرة غير شرعية"، وهنا تجدر الإشارة إلى أن قضية الهجرة غير
الشرعية ليست قضية منفصلة عن باقي القضايا الاجتماعية، بل هي جزء من المشهد العام الذي
تقدمه الرواية، في إشارة إلى حجم المعاناة، الناتجة عن الفقر والجهل.
ـــ قضية التدين الزائف:
وهي من القضايا التي عالجتها الرواية بذكاء،
حيث سلطت الضوء على ازدواجية السلوك لدى بعض الشخصيات التي تستخدام الدين كغطاء
لإخفاء النوايا الحقيقية لتحقيق مكاسب شخصية، والشاهد من الرواية يتمثل في شخصية
(مسعد) رمز التدين الزائف، المبني على الشكل والمظاهر، دون أن ينعكس هذا على
سلوكياته اليومية: " لقد ضل المتأسلم طريق الرشاد مع أول صفعة من صفعات
الحياة، فانقلب على صديقيه كأنه عدو لدود، ليته كان مسلماً حقيقياً لكان ألطفهم،
وأحنهم"؛ فالتدين الحقيقي يتجلى في الأخلاق والمعاملات، وليس في المظاهر والادعاءات.
ـــ ضرورة الاستفادة من أصحاب الخبرات
الحياتية:
ويتجلى هذا في تحذير الجدة (هدو السر) وهي
تنبه حفيدها (عثمان) إلى خطورة بعض أصدقائه، مما يعكس وعيها بزيف تدين (مسعد)، وهذا
التنبيه أو التحذير تلخصه الحكمة البليغة: "حرص ولا تخونش"؛ وهو يكشف عن
عمق فهمها للطبيعة البشرية: " الدنيا اتغيرت
والناس مبقاش لها أمان"، وهو ماثبت له بالفعل فيما بعد.
ـــ خداع أحد المرشحين لناخبيهم:
وفي هذا الأمر يسلط الكاتب الضوء على خديعة أحد
المرشحين (الحاج محمود الحناوي "طرزان")، الذي يُتقن فن الكلام المعسول،
متلاعبا بآمال وطموحات الناخبين وأحلامهم في فترة الحملات الانتخابية، مزينا وعوده
لهم بعبارات براقة، لكن ما أن تحقق له مبتغاه؛ تبددت وعوده في الهواء، وتحول عنهم باحثا
عن مصالحه الشخصية ومنافعه المادية: "مرت الانتخابات، وفاز طرزان بعضوية
البرلمان، وبدأ يفكر في تنفيذ مشاريعه" الخاصة.
ـــ الاستخدام الخاطئ لوسائل التواصل
الاجتماعي:
وهو موضوع يعكس التحولات الاجتماعية والثقافية
التي أثرت على الحياة الريفية، والشاهد: تلميحات الجدة (هدو السر) عن تأثير
الهواتف المحمولة والاستخدام الخاطئ لوسائل التواصل على الشباب: " البتاع اللي
بتقولوا عليه المحمول ده فتح عيون العيال على قلة الأدب"، وهو ما عبرت عنه بالفعل أحداث الرواية، ومنها ما
قام به (عثمان) وأصدقائه، بشكل سلبي للتسلية، ونشر محتويات لا أخلاقية.
ـــ قضية البيت سكن و"البيت وطن":
وتُجسد هذه القضية فكرة أن البيت ليس مجرد
أربعة جدران، بل هو وطن صغير يحمل بين زواياه عبق الذكريات، ودفء الانتماء،
وحكايات الأيام التي لا تُقدر بثمن، مهما اشتدت الحاجة وضاقت السبل؛ يبقى قرار بيع
الدار كأنه اقتلاع لجذور الروح، ومساومة على جزء من الذات، وهو ما تمثل في موقف (عم
سليمان) من عرض (طرزان) شراء بيته: "أنه لا يستطيع التفريط في بيته، متعللا
بمقولة (من طلع من داره؛ اتقل مقداره)".
ـــ قضية الشائعات وكرة الثلج:
حيث تبدأ الشائعة غالبا بمعلومة بسيطة أو مختلقة،
مثل "وطواط واحد"، الذي تحول إلى سلسلة من الإضافات والمبالغات حتى وصل
إلى "مئة وطواط": "بدأ الجيران يجودون الخبر حتى أشاعوا أنه
تبرز مائة وطواط، وصار ذلك الرجل حديث البلدة حتى التصق بها، و صار الكفر
مشهورا في البلدان المجاورة باسم (ميت وطواط)"، مما يحمل دلالة رمزية لأسطورة
شعبية ذات طابع ساخر، تعكس قدرة الشائعات على التضخيم بسرعة، وكأنها كرة ثلج
تتدحرج وتكبر مع كل خطوة؛ بفعل تداولها بين الأفراد دون تحقق أو تدقيق، مما يجعلها
أكثر خطورة على الأفراد والمجتمعات.
ولم يقتصر الجانب الساخر ــ في هذه الرواية
ــ على تلك الشائعة، بل حفلت بعديد من المواقف الكوميدية الأخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطابع الكوميدي التراجيدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد اتسمت هذه الرواية بدمج الدراما
الاجتماعية بالسخرية، مما يعزز الطابع الكوميدي التراجيدي، وهو مايجعل الرواية
أكثر جاذبية، حيث يتشابك الضحك مع الألم في مواقف تتسق طبيعتها ونتائجها مع المثل
القائل (شر البلية مايُضحك)، ومن الشواهد التي تعزز هذا الطابع (الكوميدي/
التراجيدي)؛ مشهد مطاردة عنزات (نعنوش) بعد هروبها من اللصوص، وقيام (نعنوش) نفسه
بالإمساك بها وتسليمها للصوص، قبل أن يكتشف أنها عنزاته!، وهكذا تحول هذا الموقف المأساوي
إلى مشهد ساخر؛ عندما: "أدرك أنها ــ عنزاته، فخلع طاقيته وألقى بها على
الأرض وأخذ يلطم قائلاً: - يا خيبة امك فيك يا نعنوش"!، وكذلك حلمه المتكرر
بأنه حمار يسحب عربة ثقيلة، ذلك الحلم الذي يحمل طابعا تراجيديا في مضمونه، لكنه
يُقدم بطريقة كوميدية تعكس عبثية الحياة التي يعيشها (نعنوش): "وبعدما كان
يرى نفسه بالحلم سابقاً حمارا معلقا في
الهواء بين زندي عربة ثقلت أحمالها، ولكن ما زاد نعنوش حسرة هذه المرة أنه رأى
أربعة حمير يجرون العربات، وتثقل كلها وتسقط خلفاً ويصير مصيرها جميعاً كمصيره في
الحلم السابق"!، وكذلك تصوير (المقاول عادل) وهو يتلصص على الجيران من خلال
فتحة اصطنعها في جدار المبنى الذي يقوم بإنشائه، وما حدث له من عقاب على أفعاله
تلك من أبناء الحي الذين: "حملوا العصي والآلات الحادة، وتوجهوا نحو
البرج للانتقام من عادل، ومن معه، ويطردونهم
من المكان بلا رجعة"!، وكذلك صورة (طرزان) التي صورها (نعنوش) بقوله له:
"يومها كنت هتقع، وذيل ثوبك اتعلق في فرع من الشجرة، وجسمك دلدل لتحت، وقعدت
ترفس برجليك وافخادك المكشوفين وتصرخ عشان حد ينجدك، وراحوا قالوا لأبوك، بعت لك
ونش من المركز عشان ينزلك؟"!.
وهكذا أتت الكوميديا في هذه الرواية لتخفف
من وطأة التراجيديا، وتجعل القارئ يتفاعل مع النص بطريقة أكثر قربا، حيث يجد في
الفكاهة متنفسا وسط الأحداث المؤلمة، ويشعر بتعاطف أعمق مع الشخصيات، حيث يتنقل
بين مشاعر متناقضة تعكس تعقيدات الحياة في البيئات الريفية المليئة بالمفارقات، والتي
صاغها الكاتب بلغة الحوار، الذي كان وسيلة فعالة لإبراز صوت الشخصيات وهمومها، بما
تعكسه من قضايا وأفكار، بلغة ريفية تتسم بالواقعية والبساطة وصدق التعبير، ورغم أن
هذا قد أتى على حساب اللغة البليغة والصور الجمالية، إلا أن الكاتب نبيل عبدالرحمن
ــ الذي تعرفت عليه شاعرا مبدعا منذ سنوات طوال؛ وجدته هنا لم يغفل تماما هذا الجانب،
بل أورد ــ حصرا ــ عبارات عشر بليغة؛ هي: "طغيان التمدن جعلت مخالبه تمزق براءة الريف أشلاء"،
"يستشيط غيظا، وينتفض كحبة الفشار المتفجرة من لسعة النار"، "وقلب
كل واحد منهما يطرق جدار قفصه الصدري محاولاً الهروب من شدة الخوف"، "ليت
الفقر والروتين والرشوة يموتون مثلما ماتت الجدة هدو السر" ــ وإن كنت أرى أن
(بدلا من/ أو بديلا عن) تكون أكثر توفيقا من (مثلما) الواردة في هذه العبارة،
"كتر الضيق بيخنق، وبرضو كتر الوسع بيتوه"، " كادت قدماه
تلاصق قفاه من سرعة الجري"، "إوعى البحر يسبقني ويخطفك"، "فالبيت
وطن, وتركه لأي دخيل ما هو إلا استغلال للظروف، وموافقة على الاحتلال"،
"سافر إلى بلاد لم يحتضنه فيها سوى الوحدة والألم والعذاب"، " كل شيء هالك
مالم يكن للمرء وطن يأويه".
فضلا عن التلميحات والرموز، التي أشير إليها
فيما يلي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجليات التلميحات والرموز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حفلت هذه الرواية بعديد من التلميحات
والرموز، التي تعزز من عمقها وتفتح المجال لتأويلات متعددة، ومنها على سبيل المثال
لا الحصر:
(نعنوش) الذي يرمز للإنسان البسيط الذي
يحاول التكيف مع واقعه رغم عبثيته، وشخصيته تجمع بين السذاجة والمرح، وهو انعكاس
لحالة التناقض في حياة القرويين، والجدة (هدو السر)؛ تمثل الحكمة الشعبية والقيم
الأصيلة والدعوة للتوازن بين الطموح والواقع، وشجرة التوت تمثل الماضي الذي لا
يمكن الهروب منه، حيث تعود ذكريات طفولة (طرزان) تطارده، والحلم الذي يرى فيه (نعنوش)
نفسه حمارا يسحب عربة ثقيلة يرمز إلى عبء الحياة والمعاناة اليومية التي يواجهها، ويعكس
الحلم شعوره بالعجز وعدم القدرة على التحرر من قيود الفقر، وعبير وعملها في إعداد
وبيع الحواوشي؛ يرمز إلى رغبتها في الاستقلال وتحدي الظروف، والبيوت المهجورة
والسكن المؤقت؛ يرمز لحياة بلا أمان،.
أما النهاية؛ فقد أتت معبرة عن الشخصيات وهي
تتمسك بالأمل وسط واقع قاسٍ مليء بالتحديات، مما يعزز الطابع التراجيدي لتلك النهاية
المفتوحة، ومصير الشخصيات غير المحسوم في ظل المعاناة المستمرة، والكاتب بهذا يحفز
القارئ على المشاركة في عملية الإبداع، حيث يتيح له أن يكوّن تصوراته الخاصة عن
النهاية التي يفترضها، مع الوضع في الاعتبار ــ من وجهة نظري ــ أن كل نهاية هي
بداية لأحداث جديدة ومستمرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظات هامشية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالرغم من أن هذه الرواية تتمتع بالعديد من
المزايا الأدبية والرمزية، إلا أنها ــ شأنها شأن أي عمل أدبي ــ لا تخلو من بعض
السلبيات؛ منها: وجود عدد ــ غير قليل ــ من الأخطاء الإملائية والنحوية والصياغية،
التي كان يجدر بالكاتب مراجعتها وتدقيقها قبل الطباعة، فضلا عن اتباعه الأسلوب
السردي التقليدي ــ بطريقة خطية ــ في نقل الأحداث دون أن يكون هناك تنوع في أسلوب
السرد، كالتنقل بين الأزمنة، واستغلال المواقف
بالشكل الأمثل لخلق التوتر الدرامي المفاجئ وغير المتوقع...
ــــــــــــــــــــــــــ
وفي الختام
ــــــــــــــــــــــــــ
رغم هذه الملاحظات الهامشية البسيطة؛ يمكنني
من باب الإنصاف أن أشير إلى أن هذه الرواية تعكس الواقع الاجتماعي والمادي
والسياسي للقرية، مما يجعلها أكثر من مجرد سرد للحياة اليومية، بل تأتي انعكاسا
فلسفيا دالا على صراعات الإنسان مع مجتمعه، مشفوعة بالتلميحات والرموز على نحو
ماذكرت، ومن ثم أرى أنها تُعد واحدة من الأعمال الأدبية التي تعبر بإخلاص وصدق عن
طبيعة الحياة الريفية، دون تجميل ولا تزييف، وهي بهذا ترسل رسالة ضمنية لضرورة الانتباه
لما بدا فيها من مواقف إنسانية، وما عرضته من قضايا اجتماعية، متمنيا للروائي والشاعر
الكبير أ/ نبيل عبد الرحمن المزيد والمزيد من العظاء، الذي يثري به المكتبة
العربية إبداعا وتألقا، فهو بحق ــ وبشهادة الجميع ــ كاتب وشاعر صاحب خلق رفيع
وإبداع متميز، يستحق عليه كل احترام وتقدير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر