ظلال البحر في مرايا النساء
قراءة في المجموعة القصصية (البحر يحررني)
للكاتبة البحرينية د/ جميلة الوطني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم/ مجدي شلبي (*)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقدمة:
في هذه المجموعة القصصية "البحر يحررني"؛ يتجاوز "البحر"
كونه مجرد أفق مائي، إلى كيان نابض بالحياة، حاملا ظلالا إنسانية عميقة، تعكس
تجارب النساء وصرخاتهن الصامتة، متفاعلا معهن في رحلتهن بين قيود الواقع وأجنحة
الحرية؛ فالبحر هنا هو المدى الذي يحتضن قصصهن، حيث تمتزج الأمواج برمزية الأنوثة،
وكأن كل موجة تحمل سرا من أسرارهن، التي يبحن بها إليه كرفيق ودليل، في محاولة
لتجاوز الظلال نحو نور الحرية.
فمن خلال قصص هذه المجموعة الرائعة، نرى المرأة وهي تتحدى قيودها، باحثة
عن ذاتها وسط أمواج الحياة، وهكذا تتشكل بين الظلال والمرايا دعوة للتأمل في أعماق
البحر، والمرأة على حد سواء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مظاهر الأدب النسوي في المجموعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتميز هذه المجموعة القصصية بعمق رمزي وإنساني واضح، يعكس رؤية أدبية
تسعى للتعبير عن قضايا إنسانية واجتماعية مهمة، وتحمل قصصها الكثير من العناصر
التي تعبر عن الأدب النسوي بشكل خاص، من خلال التركيز على قضايا المرأة وتجاربها
في مواجهة المجتمع، مثل الظلم الاجتماعي، العنف، القهر، الطموح، والسعي للتحرر، وهذه
الموضوعات تتكرر في الأدب النسوي بهدف تسليط الضوء على معاناة المرأة وتحدياتها،
وإبراز صوتها في مواجهة القيود المفروضة عليها من خلال تناول قضايا عديدة؛ منها:
ــ محاولة التحرر من القيود المجتمعية: وقد تجلى هذا في بعض قصص المجموعة؛
مثل محاولات المرأة التحرر من قيود الزواج من "لا رجل"، ومعاناتها بسبب
بطء التقاضي، في قصة: "سوط الميزان"، التي تشير فيها ــ ضمنا ــ إلى المقولة:
(العدل البطيء؛ ظلم).
ومن هذا الشرخ في مفهوم العدالة؛ إلى "شرخ في جدار الزمن" وهو
عنوان قصة أخرى؛ تتناول موضوعا تقليديا يتمحور حول صراع الحب الصادق مع قيود
التقاليد الاجتماعية القاسية، التي تقف عائقًا أمام تحقيق حلم الزواج بين الحبيبين
بسبب الفوارق الاجتماعية، ورغم استهلاك هذا الموضوع في الأدب، إلا أن القصة تميزت
بنهاية مؤثرة وغير مألوفة، حيث اختار الشاب أن يضحي بحياته، تعبيرا عن رفضه
الانصياع لتلك القيود التي حرمته من الزواج من حبيبته.
ومن تلك القيود التي تفرض على الحبيبين الحرمان من تجربة حياتهن، إلى
قيود أخرى تفرضها التقاليد والعادات، منها عادة ختان الإناث التي تتم بجراحة قاسية
ومؤذية نفسيا وجسديا للأنثى، وتشكل حرمانا من تجربة حياتها بشكل طبيعي أيضا، وتتجاوز
حدود الجسد إلى حدود الروح والزمن؛ وهو ماعبرت عنه قصة: "استئصال الغد".
ثم تأتي قصة "الحقيقة العارية"، التي ليست مجرد كشف جسدي،
بل هي رحلة داخلية نحو مواجهة الذات، والبحث عن الحرية في عالم مليء بالقيود،
لتكون النهاية بمثابة تتويج لهذه الرحلة، حيث يتحقق التحرر بشكل مأساوي من خلال
الغرق في الحقيقة المطلقة.
ومن هذا البعد الرمزي إلى قصة أخرى أكثر غموضا وإثارة، وهي قصة: "رسالة"،
حيث يمكن تصور التمثال كرمز للصوت الداخلي للبطلة، وهو يصف نفسه بالشيطان كطريقة
لتحدي القيود التي فرضتها (البطلة) على نفسها بسبب وفائها لوالدها؛ فيحاول التمثال
أن (يعظها) ويحفزها على التحرر من الأفكار والمعتقدات التي تعيق تطورها الشخصي،
ويشجعها على اتخاذ خطوات جريئة قد تكون في البداية غير مألوفة أو حتى مرفوضة
اجتماعيا.
ثم يأتي نقد النظام الذكوري الذي تجلى في قصة "قرابين" ليُيرز
القهر الذكوري كجزء من منظومة اجتماعية تضطهد المرأة، مع استلهام رمزية شهرزاد
وشهريار، وبهذا تناصت قصة "قرابين" مع قصة "ألف ليلة وليلة"، التي
ليست مجرد خيال قصصي، بل مرآة تعكس قضية اجتماعية وثقافية مستمرة؛ فشهريار ليس
شخصية فردية، بل هو رمز لمنظومة ذكورية تُمارس العنف والتمييز ضد النساء، وشهرزاد تمثل
الأمل في قدرة المرأة على تحدي القمع، ليس فقط بالتمرد، بل بالإبداع والوعي.
أما قصة "رياح زرقاء"؛ فهي تعكس الصراع بين الطبيعة التي
تسعى لتقديم الحكمة، والإنسان الذي يرفضها؛ فالرياح هي الرسائل، واللون الأزرق هو
البحر الذي يحمل هذه الرسائل، لكن تجاهلها يؤدي إلى العاصفة النهائية، التي تمثلت
في مواجهة الرجل لحقيقة أمه كرمز للمرأة التي كان يحتقرها، ثم ماحدث بعد ذلك من انهياره
أمامها.
وتستمر الكاتبة المبدعة في استخدامها للرمزية على نحو رائع في قصة:
"ستون زهرة" وذلك للتعبير عن القيم النبيلة التي تدافع عنها الفتاة في
القصة، سواء كانت هذه القيم يمثلها الأشخاص (النوريين)، الذين يرمزون للمبادئ والاستقامة،
أو الأمل في مواجهة قوى الظلم والفساد، والزهور هنا هي رمز الجمال والنقاء، الذي
يواجه خطر الذبول تحت وطأة (الديناصور)، مما يعزز الطابع الرمزي العميق للقصة، ويعكس
عمقا فلسفيا وأدبيا يوضح بجلاء الطابع النسوي للمجموعة على نحو لافت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في عنوان المجموعة المستمد من إحدى قصصها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتأتي قصة "البحر يحررني"، وهي القصة التي اتخذتها الكاتبة
عنوانا لمجموعتها حاملة ــ هي الأخرى ــ مفارقة غنية بالرمزية؛ ففي البداية يُنظر
إلى البحر كمصدر للحرية، حيث يرمز إلى الاتساع والانفتاح، ومن ثم يُفهم التحرر هنا
كتحرر من القيود المادية أو الاجتماعية، لكن مع تطور الأحداث، يتكشف البحر كرمز للحقيقة
القاسية التي لا مفر منها؛ فالتحرر هنا ليس من القيود الظاهرة، بل من الأوهام التي
تحيط بالشخص، ومن ثم تدعو القصة للتأمل في أن الحرية الحقيقية تكمن في مواجهة
الواقع بشجاعة ووعي، بدلاً من الهروب إلى وهم التحرر، وهو مايتسق في الفكرة مع
قصة: "لن أخون" التي تقدم فيها الكاتبة تجربة رمزية غنية تستحق التأمل
والتفسير؛ فالقارب فيها يمكن أن يُفهم كرمز للحياة الشخصية أو الوسيلة التي تسعى
البطلة من خلالها لتحقيق حريتها والانعتاق من قيود الحياة الاجتماعية، والرحلة
البحرية تمثل رغبة في الهروب من الواقع واستكشاف أفق جديد، بينما نفاد الوقود يعكس
العقبات التي تواجهها في السعي نحو هذا التحرر، وهكذا تدعو هذه القصة أيضا إلى
التأمل في ماهية الحرية، وتُظهر أن الهروب قد لا يكون هو الحل، بل ربما يكون السعي
لفهم أعمق للذات هو الطريق نحو الانعتاق الحقيقي، وقد جاء السرد الرمزي في هذه
القصة معبرا عن جدلية العلاقة بين الحلم والواقع، والرغبة في التحرر من جهة، ومواجهة
الحقائق من جهة أخرى.
وغير بعيد عن هذا وذاك ماجاء في قصة "نافذة أمل" التي ترسم
صورة أدبية غنية مليئة بالرمزية والتناقضات بين الحرية المفقودة والحنين إلى الذات
القديمة، بين نافذة البحر كمنفذ للحرية والانطلاق، واللوحة كمرآة للذات وقيود
الجدران، وهو ما يشير إلى الصراع الداخلي بين الواقع القاسي وأحلام الانعتاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخيط الذي يجمع قصص المجموعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في مجموعة "البحر يحررني"، تتشابك القصص بخيط رمزي دقيق،
يتمثل في البحث عن الحرية والكرامة الإنسانية وسط قيود الحياة وتناقضاتها، هذا
الخيط يظهر في تنوع الشخصيات والمواقف، لكنه يحمل رسالة موحدة عن الصراع الداخلي
والخارجي للإنسان ــ لا سيما المرأة ــ مع قوى القهر والظلم، سواء كانت تلك
الصراعات اجتماعية، أو نفسية، أو ذاتية، دون أن تغفل الكاتبة عن تناول قضية إنسانية
مرتبطة بالمعاقين جسديا في قصتها الرائعة "حصان على عجلات"، التي تؤكد
من خلالها حقيقة أن الإعاقة ليست في الجسد الذي يُجبر على التحدي، بل في العقل
الذي يرضخ للقيود فالحرية الحقيقية ليست في الجسد، بل في الفكر والإرادة.
وتأتي التضحية كخيط آخر يربط بين القصص برباط إنساني، خاصة في سياق
الأمومة والعطاء، حيث تُظهر الشخصيات استعدادا لتقديم كل شيء من أجل الآخرين، حتى
لو كان ذلك على حساب حياتهم أو صحتهم؛ مثلما جاء في قصة "قلب وجسدان"؛ حيث
تبرز العلاقة العاطفية العميقة بين الحفيدة وجدتّها، والتي تتجسد في التضحية
والرعاية المستمرة، لكن النهاية المأساوية تثير تساؤلات حول معنى التضحية، وهل
دائما يكون للوفاء والعطاء مثل هذا المصير الحزين؟، قد يرى البعض أن هذه النهاية
السوداء تحمل دعوة ــ ضمنية ــ للتفكير في التوازن بين العطاء والاهتمام بالنفس، أو
إشارة إلى أن التضحية في هذه القصة، وفي قصة "صراع" أيضا؛ ليست مجرد
فعل، بل فلسفة تعكس عمق الروح الإنسانية.
ومن الروح الإنسانية التي تمثلها التضحية، إلى الروح الشريرة
والقاسية التي بدت من مالك عقار تجاه المستأجرة الفقيرة (بطلة قصة) "سقوط"؛
والمدهش في هذه القصة أن المالك الذي بدأ القصة بشخصية قاسية وغير مبالية بتعسر
حال الساكنة، ينتهي به الحال إلى إدراك قيمة الامتنان ورد الجميل لها على إنقاذها
له، ورعايته أثناء محنته، هذه النقلة في شخصيته تضيف بعدا دراميا قويا للقصة، وتشير
إلى قدرة الخير على تغيير النفوس.
وهكذا نجد المرأة في هذه المجموعة تمارس أدوارا متعددة، لكنها دائما
تحمل صوتا ينادي بالخير والعطاء، وينشد الحرية والعدالة الاجتماعية، سواء بالصمت والحديث
مع الذات أو بالبوح بالكلمات؛ مثلما تجلى هذا في قصة: "حب في حاوية" تلك
القصة التي تجسد مأساة إنسانية في أقسى وأبشع صورها، حيث تختلط براءة الحب وشقاء الفقر
بظلم الواقع، لتصبح الحاوية رمزًا صارخًا للتهميش والإهمال، الذي يلتهم أحلام
الفقراء كما يلتهم حياتهم، في مشهد يجسد قمة الفاجعة، حيث يُعامل البشر كالنفايات،
ويُلقى بهم في "وادي النسيان" دون اكتراث!، وهكذا تترك تلك النهاية أثرا
عميقا في النفس، وتدعونا لإعادة النظر في القيم الإنسانية، وتذكرنا بحقيقة أن لكل
نبض حياة قيمة، مهما بدا صغيرا أو مهمشا، ويحق للجميع العيش بكرامة إنسانية وعدالة
إجتماعية، وهو ما ينقلنا إلى قراءة في قصة أخرى هي: "ريشة طفل"، التي تصور
مشهدا مؤثرا من واقع الحياة، حيث يتحول الطفل الفقير إلى رمز للكفاح والإبداع في
وجه الظروف القاسية، فعلى الرصيف تتجلى موهبته في الرسم، والرصيف هنا هو رمز
للتهميش، والرسم وسيلة للبقاء وطوق نجاة في وجه الفقر، علما بأن هذا الطفل ليس
مجرد حالة فردية، بل هو صورة مصغرة لواقع ملايين الأطفال الذين يمتلكون مواهب فريدة،
لكنهم يُحرمون من الفرصة بسبب الفقر، وعدم مساعدتهم وإلقاء الضوء على مواهبهم،
وهكذا تحمل القصة رسالة ضمنية لدعمهم ماديا ومعنويا؛ للاستفادة من مواهبهم وتحقيق مستقبل
أكثر عدالة وتعايش إنساني، وهو مايرتبط ــ من زاوية مجتمعية أشمل وأعم ــ بالدعوة للتعايش
الإنساني السلمي بين مختلف مكونات المجتمع، والإيمان بالتعددية، على نحو ما جاء في
قصة "ثقب القوس"، وهو عنوان يفتح الباب أمام عديد من الدلالات؛ منها: أن
"الثقب" يرمز إلى انزياح التمييز والتفرقة؛ وفتح المجال للقبول
بالتعددية والألوان المختلفة، كما أرى أن وصف "مملكة الألوان" الواردة
في القصة تحمل دلالة قوية ترمز إلى وطن الكاتبة (مملكة البحرين) لما يتميز به
المجتمع البحريني من تعدد ثقافاته وأطيافه.
وعن العلاقات الإنسانية، وبخاصة (الصداقة)، التي تتطلب توازنا دقيقا
بين التعبير عن المشاعر والاحتفاظ بمساحة من الواقعية والاعتدال، جاءت قصة:
"قصيدة بلا خاتمة"، التي تشير إلى حقيقة أن التعبير المفرط عن المشاعر
العاطفية قد يُفسد العلاقة، فالصداقة الحقيقية تقوم على الراحة والانسجام، وليس
على المبالغة التي قد تبدو أحيانا كأنها عبء عاطفي قد يُفسر على أنه محاولة
للسيطرة أو التملك، مما يُشعر الطرف الآخر بالاختناق؛ فالعلاقات تحتاج إلى مسافة
آمنة بين الطرفين، والمبالغة قد تخل بهذا التوازن.
ولكون الكاتبة شغوفة بالتعبير عن علاقة الإنسان بالطبيعة؛ أبدعت قصة:
"عين ثالثة" التي عقدت من خلالها مقارنة بين جمال الطبيعة في أبهى صورها
وبين مظهرها بعد أن طالها الخراب والحروب، وهي بهذا تكشف عن مفارقة مؤلمة بين ما
أبدعته يد الخالق وما دمرته يد الإنسان، تلك المقارنة ليست مجرد وصف لحالة، بل هي
دعوة للتأمل في مسؤوليتنا تجاه الطبيعة، التي في جمالها دعوة إلى السلام ومنح
الأمل، وفي خرابها تدمير ليس للبيئة وحدها؛ بل تدمير لإنسانيتنا أيضا.
وغير بعيد عن هذا ما يحدث من تخريب ودمار للإنسان ذاته، بسبب والحروب
وماتؤدي إلىه من ظروف قاسية يعيشها السكان، وقد أتت قصة "دماء بيضاء" ليشير
عنوانها إلى استعارة للإنسانية المشتركة أو الأمل في عالم خالٍ من الحروب
والنزاعات بين البشر، وهي الدعوة التي عبر عنها (بطل القصة)؛ فاقتادوه إلى مشفى
المجانين لكونه يعبر عن تلك المشاعر المكبوتة بطريقة غير مألوفة، فقد كان يصيح
بكلمة "عروسة" أو "أرض العروس"، التي تُستخدم كرمز للجمال أو
الأمل أو الحلم في سياق مليء بالمعاناة والضغوط النفسية، وهي صيحة معبرة عن رغبته
في الهروب من الواقع المؤلم إلى عالم أجمل وأكثر حرية، وخال من العنف.
ومن العنف الدولي إلى العنف الأسري؛ جاءت قصة "اعترافات هارب"
التي تسلط الضوء على الأثر ــ الجسدي والنفسي ــ المدمر لهذا العنف أيضا، فهذه القصة
أشارت إلى الحالة التي وصل إليها شاب نتيجة التأثيرات النفسية الناجمة عن بيئة
أسرية مضطربة، وخلاصتها: أن الحرمان العاطفي أدى إلى تفاقم الصراع الداخلي، ثم الاندفاع
نحو السلوكيات السلبية، ثم تدمير ذاته كوسيلة احتجاجية من خلال إدمانه للمخدرات
كطريقة رمزية لإيذاء نفسه، وكأنه يعاقب ذاته لتعويض شعوره بالعجز عن مواجهة والده
أو تغيير الواقع.
ولم تغفل الكاتبة ــ وهي في خضم تناولها لقضية العدالة المجتمعية ــ
أن تشير إلى الحيل التي يستخدمها الفقراء في التسول؛ فأوردت قصة بعنوان "صيد"
التي أظهرت خلالها التفاوت الطبقي بشكل غير مباشر، وهكذا ظهر الرجل الخمسيني كرمز
للثراء أو التعاطف، بينما الأم والطفل يمثلان شريحة اجتماعية تعاني من الفقر والتسول
بطرق غير تقليدية، حيث لجأت تلك الأم لحيلة ذكية تستدر بها عطف الآخرين دون اللجوء
إلى التسول المياشر، ويؤكد هذا عنوان القصة "صيد".
أما قصة "قناع" فهي تتناول الصيد من زاوية أخرى، متعلقة باستغلال
كاتب لشهرته في الوسط الأدبي، لاصطياد المعجبات أو (المبتدئات) اللائي يبحثن عن
قدوة ومصدر إلهام، وهذه القصة تحمل رسالة ضمنية لضرورة تعزيز القيم الأخلاقية التي
تليق بالمكانة الأدبية، والانتباه وعدم الانخداع بشهرة بعض الكتاب و(الأدباء)، وضرورة
التصدي لتلك الظاهرة التي تسيء للوسط الأدبي كله.
تلك إضاءات سريعة على درر ولآلئ قصص المجموعة، التي أدعو القارئ
الكريم لاقتنائها، والغوص في محيطها الزاخر؛ ليكتشف عبقرية الكاتبة في المزاوجة بين
الواقع المرير والرمزية العميقة، وارتباط جميع قصصها بخيط البحث عن معنى أرقى وأعمق
للحياة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قراءة في صورة الغلاف ومدى ارتباطها بالمتن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة الغلاف تعكس بوضوح موضوعات المجموعة القصصية "البحر
يحررني"، حيث يبدو البحر حاضرا؛ من خلال الألوان المتماوجة والخطوط التي توحي
بالحركة والانسيابية، كما أن الألوان الداكنة تضفي طابعا دراميا رائعا، واستخدام
شخصية نسائية كعنصر محوري في التصميم يشير إلى التركيز على قضايا المرأة في المتن،
وهكذا أرى أن الغلاف يعبر عن جوهر المجموعة، والرسائل الرمزية التي تحملها قصصها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظات هامشية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يخلو أي عمل أدبي من أخطاء، ولكن اللافت للنظر أن هذه المجموعة التي
خلت من الأخطاء النحوية والصياغية؛ لم تسلم من بعض الأخطاء المطبعية، التي منها
على سبيل الحصر:
ــ في (الصفحة رقم 55) من قصة "اعترافات هارب" ورد خطأ مطبعي
في عبارة: "تلتزم بأخذ الأودية"×، والصواب: الأدوية.
ــ وفي (الصفحة رقم 85) من قصة "قناع" وردت العبارة: "لم
تتمكن تفسيرها"× والصواب: لم تتمكن من تفسيرها، وكذلك في (الصفحة رقم 86) من
ذات القصة "قناع" وردت عبارة "الكثير المبتدئين"× وصوابها: كثير
من (المبتدئين) أو طبقا لسياق القصة: (المبتدئات).
ــ في (الصفحة رقم 98) من قصة "سقوط" وردت العبارة
التالية: "اللهم حولك وقوتي"×، والصواب: اللهم حولك وقوتك.
ــ في (الصفحة رقم 110) من قصة "رسالة" وردت كلمة: "ارتعق
جسدي وارتعد"×، وأعتقد أن المقصود هو: ارتجف جسدي وارتعد.
ــ ملاحظة عامة: لفظ الجلالة (الله) وجدته مكتوبا في جميع القصص هكذا
(الـله)، ربما بقصد لفت الانتباه إلى لفظ الجلالة من خلال هذا التغيير في الكتابة ليبرز
أهمية الكلمة في السياق، ولكني أرى ــ وربما تتفق الكاتبة معي ــ في أنه كان من الأفضل
أن تكون كتابة لفظ الجلالة "الله" بالشكل التقليدي المعتاد.
ــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة ختامية
ــــــــــــــــــــــــــــ
إن السرد القصصي في هذه المجموعة ينبض بروح البحر، وتتناغم العبارات
كأمواج تلامس شواطئ النفس، وهو مايؤكد أننا أمام قلم استثنائي ينسج من الحكايا
مرايا تعكس أعمق خفايا الإنسان، فقد أبدعتِ الكاتبة د/ جميلة يوسف الوطني في رسم
عالمٍ يفيض بالرمزية، حيث تصبح المرأة صوتا للوجود، وتتماهى الأمواج مع الأحلام
والتضحيات، حتى بدت كل قصة من قصص المجموعة التي أبدعتها؛ شعاع نور يضيء عتمة
الواقع، ورسالة أمل تحرر القلوب والعقول، فالقلم بين يدي كاتبتنا المبدعة ليس مجرد
أداة، بل هو سفينة تحمل القارئ إلى عوالم أرحب وأعمق، في رحلة أدبية رائعة نستمتع
خلالها بالإبداع الراقي المعبر عن نبض الحياة، مستفيدة من العلاقة بين دراستها للقانون
(وحصولها على الدكتوراه فيه) والكتابة الأدبية (قصا وشعرا)، وهو مابدا واضحا في
كتاباتها الأدبية، التي تعتمد على تعميق الفهم بالعدالة والإنسانية والصراعات المجتمعية
والأخلاقية، مما يُعزز البُعد الفلسفي والاجتماعي في إبداعاتها، وهي بهذا تسير على
نهج من سبقها من الأدباء الذين درسوا القانون واستفادوا من خلفيتهم القانونية في
صياغة أعمالهم الأدبية، التي تناولوا فيها قضايا مجتمعية وإنسانية، ومن أشهر هؤلاء
في الأدب العربي: د. طه حسين، الذي حصل على دكتوراه في القانون من جامعة السوربون،
وهو يعتبر من أهم أعلام الأدب العربي ولقب بــ (عميد الأدب العربي)، وكذلك د. محمد
حسين هيكل، الذي حصل هو الآخر على دكتوراه في القانون، وكان من أوائل من كتب
الرواية العربية (رواية "زينب")، وفي الأدب الغربي؛ نجد الكاتب الفرنسي:
ألبير كامو، والكاتب التشيكي فرانز كافكا... وغيرهم، وهو مايؤكد حقيقة إثراء دراسة
القانون للأدب على نحو ما ورد في هذه المجموعة القصصية للكاتبة المبدعة د/ جميلة
الوطني، حيث سلطت قصصها الضوء على المعاني الإنسانية العميقة، والحرية والعدالة
الاجتماعية ــ على نحو ما أشرت إليه في قراءتي عاليه ــ وهي القضايا التي تجمع بين
المجالين بإبداعٍ راقٍ تستحق عليه الكاتبة المبدعة كل الثناء والاحتفاء، والتقدير
والاحترام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر