الأحد، 1 يناير 2012

الجزء الرابع

مفترق طرق
قبيل انتهاء فترة أداء الواجب العسكري التي استمرت ثلاثة أعوام ( من 25/3/ 1976 حتى 1/ 7/ 1979)، كان لزاما عليَّ أن أفكر في المستقبل؛ خصوصا و أن ما كان متبعا قبل هذا من مكافأة للجنود الذين أنهوا فترات واجبهم العسكري ـ سواء بقطعة أرض زراعية أو وظيفة ـ لم يعد متاحا، و ما حصلت عليه من مكافأة مادية لا يتعدى بضعة جنيهات كانت كافية وقتها لشراء قميصا و بنطلونا و (حذاء) و هي المرة الأولى في حياتي التي لبست فيها (حذاء سبور): بدون رباط...
و فور الانتهاء من أداء الواجب العسكري؛ كان طريق السفر إلى السعودية ممهدا في ظل وجود زوج شقيقتي مدرسا في أحد المعاهد هناك، غير أن ما حدث من مواقف غرائبية ـ ربما يتسع المجال لذكرها لاحقا ـ حالت دون ذلك...
فما العمل الذي أضحى متاحا لي أن أزاوله؟
كانت مهنة والدي و عمي (التصوير) هي المهنة الممكنة باعتبارها الأقرب إلى نفسي، خصوصا في ظل إلمامي بأساسياتها المتوافقة مع ميولي الفنية أيضا... غير أن الإمكانيات المادية للممارسة الفعلية لم يكن مخصصا لها ـ من جانب العائلة ـ إلا غرفة من البيت قسمتها إلى قسمين: الجزء الأول للاستقبال و الآخر كصالة تصوير، و مبلغ 400 جنيها، و عبارة: "هذا هو كل ما يمكننا تقديمه لك لتشق طريقك في الحياة و تشوف مستقبلك": فاشتريت بـ( 60 جنيها ) كاميرا يستخدمها الهواة في تسجيل صورهم أثناء الرحلات أو ما إلى ذلك، و (110 جنيهات ) مُكبر صور، و (20 جنيها ) 3 أحواض بلاستيك و كيماويات التحميض، و (40 جنيها ) أربعة كراسي، و (80 جنيها ) مكتب من الصاج و كرسي مكتب، و ( 30 جنيها ) قواطع خشبية للفصل بين المدخل و صالة التصوير، و ( 30 جنيها ) دهانات، و ( 25 جنيها ) ستارتين و ( 5 جنيهات ) ثمن فيلمين 36 مم أبيض و أسود و فيلما واحدا ألوان...
فتحت هذا الاستديو المتواضع جدا و الذي كان مطلا بابه و نافذته الوحيدة على أراض زراعية، و رغم أن تلك الأجواء تناسب الإبداع الأدبي؛ لكنني في تلك المرحلة لم أكن مهيأ نفسيا لكتابة الشعر أو حتى ممارسة هوايتي المفضلة في الكتابة أو القراءة و الاطلاع؛ فمواجهة الحياة، و النظر إلى المستقبل بمنظور واقعي مادي صدمني، خصوصا في ظل انتظار الفرج الذي لم يأتِ على مدى شهور، إلا ببعض حالات تصوير خارجي لحفلات عقد قران، كان العائد منها كفيلا بإقناع العائلة بضرورة استئجار مكان آخر في موقع أفضل؛ و هو ما تم بالفعل مؤكدين على تلك العبارة السابقة: "لا شيء يمكننا فعله لك أكثر مما قدمناه (400 جنيها و المحل الجديد)"... المحل الجديد كان في بيت أبناء عمي، و الذي يقع في أشهر شوارع المدينة، بإيجار شهري قيمته 10 جنيهات...
فكيف يمكنني تجهيز هذا المكان الجديد بالأدوات المناسبة للتصوير (آلة تصوير مناسبة لتصوير الزفاف، و صور المعاملات الشخصية ) و التجهيز و التأثيث المناسب للموقع المتميز؟
هنا برزت الإجابة المنقذة، و الحل التقليدي الوحيد: السفر إلى الخارج، ثم العودة بما يمكنني ماديا من تلك البداية الجديدة؛ و هو ما فكرت فيه، و عزمت عليه، و بعد أن فشلت محاولات السفر إلى السعودية، كانت الدولة الوحيدة التي يمكن دخول المصريين إليها دون تأشيرة مسبقة هي دولة العراق... و هو ما تم بالفعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
السفر إلى العراق:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم تكن العلاقات الرسمية حينئذ بين مصر و العراق جيدة، فكان الطيران متاحا من مصر إلى الأردن، ثم استكمال الرحلة من عمان إلى بغداد برا بواسطة باص حملنا على متنه لمدة 24 ساعة كاملة ـ دون مبالغة ـ و رغم تلك المعاناة الشديدة و المعاملة الفظة الغليظة و الاستغلال المادي الذي تعرض له المصريون في تلك الآونة، إلا أن سعيهم الحثيث لنوال فرصة عمل يستطيعون من خلالها توفير قوت يومهم هم و أسرهم، تلك الأسر التي تركوها مرغمين بعد أن أغلقت أبواب الرزق أمامهم في بلدهم؛ دفعتهم للصبر و تحمل الإهانات و هم يحشرون بشكل غير آدمي في تلك المركبات، على أمل الوصول إلى جنتهم الموعودة (بغداد)...
أثناء العبور من الحدود الأردنية إلى الحدود العراقية (منطقة تسمى الرطبة) كان التفتيش يستغرق وقتا طويلا، نظرا للأعداد الكبيرة من القادمين عبر مركبات عديدة، غير أن اللافت للنظر ذلك المشهد الذي يقوم فيه رجال الأمن بنزع و تمزيق صورة علم أمريكا الملتصقة ببعض الحقائب ـ  و هي صور لم يقصدها صاحبها طبعا بل معظم من يحملون تلك الحقائب لا يعلمون كنه تلك الصورة و لا علاقتها بأمريكا أصلا!...
و لكوني مصورا فوتوغرافيا؛ فقد لفت نظري وجود أعداد كبيرة من الصور المعلقة على طول الطريق من الرطبة حتى محطة الوصول في بغداد، و منه إلى شارع الرشيد، حيث بدأت سؤالي لسائق التاكسي عن تلك الصور العديدة التي تملأ الشوارع لشخص و معه طفلة صغيرة؛ فبدا غاضبا بسبب جهلي بشخص الرئيس صدام حسين، و ابنته حلا، و يبدو أنه أدرك حقيقة جهلي بالمناخ السياسي المختلف؛ فراح ينصحني بعدم الحديث في أي أمر من تلك الأمور، كي أنجو بنفسي من مصير مجهول...
من فندق إلى آخر انتقلت بحثا عن مكان يأويني حتى الصباح؛ دون جدوى؛ فجميع الفنادق مكتظة عن آخرها بالمصريين الذين افترش بعضهم الأرض في مداخل تلك الفنادق من شدة الزحام!...
شعرت بالإعياء الشديد؛ فألقيت حقيبتي الصغيرة على رصيف المشاة المجاور لأحد المحال المغلقة و جلست فوقها، أرقب الطريق المظلم إظلام مدينة في حالة حرب، و هي الحالة التي انعكست عليَّ، و شعرت معها بالهزيمة قبل أن تبدأ (معركة) البحث عن عمل...
غير أن مشهدا رأيته أمامي بعث في نفسي الأمل: السيارات المسرعة تهدئ من سرعتها عند بلوغها تلك الخطوط البيضاء التي بعرض الطريق، و تتوقف تماما عند مرور أحد المشاة على تلك الخطوط، ذلك الانضباط المروري الذي لم أره من قبل في مصر...
تحاملت على نفسي و نهضت لاستكمال رحلة البحث عن مكان أبيت فيه، بعد أن انتصف الليل و هدأت حركة المرور في الشارع، و شعرت بشيء من الرهبة و الخوف، استوقفت أحد المارة و سألته:
ـ هل توجد فنادق أخرى بعد في هذا الشارع؟
ـ نعم... نعم... فندق ابن خلدون و بعده فندق ابن الهيثم...
وصلت إلى فندق (ابن خلدون) فكانت المفاجأة أن وجدت عددا كبيرا من أبناء بلدي يقيمون في هذا الفندق، و منهم موظف الاستقبال ذاته، الذي اعتذر عن عدم وجود مكان، و لكنه منحني مرتبة إسفنجية صغيرة لأضعها في أي مكان من الفندق و أنام عليها حتى الصباح...
في الصباح بدأت رحلة البحث عن عمل، إلى أن وفقني الله للعمل في ستديو تصوير بشارع السعدون...
و قبل أن أنتقل إلى الحديث عن المرحلة التالية؛ يطيب لي أن أذكر في عجالة بعض الملاحظات المهمة التي لاحظتها خلال تواجدي في تلك الفترة في مدينة بغداد:
1ـ أعداد المصريين في المدينة ـ خصوصا في حي المربعة تحديدا ـ بلغت حدا لا تشعر معه بالغربة، حتى أضحى بعض العراقيين يتندرون بقولهم:
ـ هذا استعمار مصري!
و تأتي قريبة لصاحب المحل الذي أعمل فيه ذات يوم ثائرة معبرة عن غضبها و حنقها الشديد:
ـ أنا غريبه في بلدي!...
و تحكي باللهجة العراقية موقفا مفاده: أنها أرادت شراء باكو لبان من البائعين المصريين الذين يفترشون الأرصفة ـ و اللبان يطلقون عليه (علج)؛ فما أن تسأل:
ـ أكو علج؟
حتى يبادرها المصري: بكلمات مسيئة، لاعتقاده أنها تقول كلمة عيب؛ فتنطلق من بائع إلى آخر، حتى تصل إلى الأخير، الذي ينفي وجود طلبها؛ فتصرخ فيه و هي تمد يدها نحو باكو لبان، و تقول له:
ـ أكو علج؛ شنو (ما فيش)!...
2ـ كان يظهر من تعامل بعض العراقيين مع المصريين مدى استعلاء أصحاب البلد الأصليين على الوافدين، و هو ما انتبهت إليه قيادة الدولة؛ فحرص الرئيس صدام حسين في كل خطاب من خطاباته للشعب العراقي على التوجيه بحسن معاملة المصريين، بعبارات عديدة منها:
"ديروا بالكوا ع المصريين، إخوانكوا"...
3ـ كل الشباب العراقي في تلك الفترة كان مجندا في الحرب ضد إيران، و التي انتهت بلا جدوى (الرجوع إلى تفاصيل من مرجع تاريخي)
4ـ انتشار الفنادق والمطاعم و المشارب بشكل مبالغ فيه جدا، و الحركة التجارية عمالا و روادا تعتمد بالأساس على المصريين...
5ـ وجود بعض المناطق المخصصة للدعارة بحسب ما سمعت من بعض المصريين، فضلا عما شاهدته من تردد بعض الساقطات من جنسيات عديدة على بعض المحال لعرض المتعة مقابل المال، و بعضهن يصرحن بلا حياء: تريد ونسة؟
و كان لي الموقف التالي مع إحداهن، التي أتت مرتدية ثوبا فاضحا تحت عباءة سوداء، ظننتها تريد التصوير، إلا أنها أعلنت و هي تفتح العباءة عن صدرها العاري البض، أنها تريد شيئا آخر!؛ فما كان مني إلا أن صحت فيها، واصفا إياها بأبشع الألفاظ؛ فانطلقت تهرول:
ـ مخبل هذا... مخبل!
المدهش أنها قابلت و هي خارجة أحد أصدقاء صاحب المحل، الذي علم بالأمر، و بدلا من أن يحيني على ما فعلت؛ وجدته يقول معاتبا:
ـ ما يصير مجدي، ما يصير... رزقها، يا تعوفها...!.
6ـ كانت قيمة العملة العراقية (الدينار) تعادل 3 أضعاف قيمة الدولار الأمريكي، في الوقت الذي كان هذا الدولار يعادل 80 قرشا مصريا، و من خلال فرق العملة كان بعض المصريين ـ الذين لا يجدون عملا ـ يستفيدون بهذا الفارق من خلال التحويل بأسمائهم لصالح من يتعدى فائض ديناراتهم الحد الأقصى المسموح به للتحويل البنكي لكل وافد...
بعد قضاء عدة شهور في هذا العمل، تمكنت خلالها من توفير ما يلزم لاستكمال افتتاح الاستديو الخاص بي؛ عدت إلى مصر؛ فلم يكن سفري إلا وسيلة فقط لتحقيق هذا الهدف...
و هو ما سأخصص له الجزء الخامس بإذن الله>