الاثنين، 30 أبريل 2012

قراءة في مجموعة قصصية للقاصة الأردنية/ رولا حسينات بقلم: مجدي شلبي

ـ نُشرت دراستي هذه في صحيفة (أخبار اليوم) السودانية السبت 8 فبراير 2020
مقدمة قراءتي في مجموعة قصصية

للقاصة الأردنية/ رولا حسينات

بقلم: مجدي شلبي
     من خلال رؤية أولية للمجموعة القصصية (جاردينيا) (18 قصة) يلحظ القارئ أنها تتشابك في معظم نصوصها مع الواقع بذكاء شديد، و أن الكاتبة استطاعت أن تطرح أفكارها المتسقة مع منهجها التنويري، الذي يدعو لإطلاق العقول و القلوب من عقال الصنمية الحجرية المقيدة للحرية، و هي في مجملها نصوص مفعمة بمشاعر أنثوية، لا تستطيع التعبير عنها إلا أنثى مرهفة الحس، دقيقة الوصف، متمكنة من الصياغة الأدبية الموصلة للمعنى، لتؤثر في القارئ من خلال التنوع في استخدام أدوات السرد ( الراوي العليم ) حينا و ( الراوي الذاتي ) حينا آخر؛ مما أتاح لها الحرية في الحكي الممتع و المشوق، متسلحة بقدرة متميزة على استخدام الرموز الموحية، و التصوير المعبر؛ مستنهضة الهمم، محذرة من مغبة الغفلة...

و الملفت هنا أن الكاتبة أجادت استخدام ( السريالية )؛ بتحريرها لغة السرد من المنطق، و الغوص في اللاشعور، و هو ما ظهر في بعض قصص المجموعة، التي بدت غامضة، غموضا يحتاج إلى أمرين معا: أن تتم إعادة القراءة مرة أخرى، مع محاولة نسيان ما اكتسبه القارئ من ثقافة نمطية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قراءة سريعة في قصص المجموعة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 ( ادخلوها آمنين )

قصة تتشابك مع الواقع بذكاء شديد؛ استطاعت كاتبتها أن تطرح رؤيتها في قضية الإرهاب على نحو درامي بحرفية و اقتدار... أبدعت في الوصف و التعبير؛ فأحالت النص القصصي إلى مشاهد تنبض بالحياة، وهو ما يؤهل هذا العمل الأدبي الراقي و الهادف للإنتاج التلفزيوني كأحد وسائل القوة الناعمة في مكافحة الإرهاب

( السقوط إلى أعلى )

قصة امتزج فيها الوضوح بالإلغاز، و الواقعية بالرمزية على نحو تلخصه العبارة التي أوردتها الكاتبة في متن وصف حالة البطل: "أصبحت حياته طيفا ثملا يروح ويجيء بين صفو الكلمات وسوء الممارسات" تلك الازدواجية التي أضفت حالة من الغموض على نهايتها، بطريقة سرد تفتح شهية القارئ للتأويل، وصولا لما أرادته الكاتبة من معنى، أو حتى تجاوز ذلك إلى دلالات إضافية.

 ( مجرد وهم )

نص مفعم بمشاعر أنثوية، لا تستطيع التعبير عنها إلا أنثى مرهفة الحس، دقيقة الوصف، متمكنة من الصياغة الأدبية الموصلة للمعنى، لتؤثر في القارئ و تدفعه للتعاطف الإنساني ضد النظرة الذكورية الظالمة و القاهرة للمرأة...

( رقصة قبل الوداع )

استخدمت القاصة هنا أسلوبا مغايرا، فلجأت إلى أداة السرد الكلاسيكية القديمة ( الراوي العليم )؛ التي أتاحت لها الحرية في الحكي الممتع و المشوق، متسلحة بقدرة متميزة على استخدام الرموز الموحية، و التصوير المعبر؛ مستنهضة الهمم، محذرة من مغبة الغفلة: ( أنتم مساكين نهايتكم قريبة أيها النيام، نهايتكم قريبة ) و ( كفانا جهلا يا ياسين )...

ورغم ما تحمله القصة من توجه لمقاومة المحتل و عدم تصديق دعاواه: لن يكون المجرم قاضيا مهما ادعى ولن يكون قدّيسا مهما أنجبت عاهراته أبناء صالحين )؛ فقد استطاعت أن تمزج قصتها تلك بمشاعر عاطفية، امتزاجا ساهم في إحداث حالة من التعاطف الإنساني دون إخلال بالدعوة لتلك المقاومة: ( الحب والعشق لا يعيبان الرجل )، تلك العبارة أوضحت أن أصحاب القلوب النابضة فقط هم من يشعرون و يتحركون، أما أصحاب القلوب الميتة فلا أمل يرتجى منهم: ( يا مرتجية العزاء من قلوب قالبها من حديد ) و هو إسقاط مؤلم، يعبر عن واقع عربي مخجل.

 ( عاشق الحجر )

قص بلغة متميزة، باستخدام أسلوب الراوي الذاتي، و بلغة شاعرية راقية، أوصلت الكاتبة فكرتها المتسقة مع منهجها التنويري، الذي يدعو لإطلاق العقول و القلوب من عقال الصنمية الحجرية المقيدة للحرية: ( لا تبصر الحرية تلك القلوب التي ينتعل حاملوها أحذية من رخام )... و تؤكد على حقيقة الارتباط بين المعاناة و تلك الحالة: ( الجوع والفقر سيد له تابعوه، والأتباع صم بكم )، و من الجماليات الرائعة هنا تلك المزاوجة الهادفة لإبراز المعنى في تجلٍ إبداعي راقٍ؛ بين أزميل النحات، و دعاة التنوير: ( لكل منكم تمثال، لكل منكم مثيل فهل أنتم منه أم أنكم منه براء )، و بأسلوبها التهكمي تعبر عن حالة رفضٍ من قِبل الخائفين الوجلين لكل محاول لبث الروح في عقولهم و قلوبهم المتحجرة: (  إنك رجيم.. إنك لرجيم.. تُنبض الحياة في الحجر )!... و رغم تلك المقاومة الشديدة المتسمة بالغباء يظل: ( الأزميل المريب هو صانع المعجزات )، ( يقال من رحم المعاناة يولد العباقرة وكنتُ أحدهم وكنت أنت مصطفى واحدا من النجباء )، و أرى أن الكاتبة بنصها البديع واحدة من النجيبات.

 ( ما قبل النهاية... )

عادت هنا القاصة لاستكمال مشروعها الفكري المقاوم، المستنهض للهمم و العزائم، بأسلوب الراوي العليم، و بلغتها الشعرية المتميزة، البعيدة كل البعد عن المباشرة، مستعينة بقدرتها الرائعة على الصياغة الموحية بذكاء، معلنة عن النتيجة الحتمية لإخافتها: ( مهما حدث أرجوك يا مجدولين لا تفتحي لأحد ) هو أنها: ( لن تفتح لغير الرعب الذي يسكنها ويسكن هذا البيت وعالمها وكل ما حولها من صمت ) و الكاتبة هنا تحذر من استمرار هذا الوضع: ( لا شك أنها ستموت حبيسة الجدران.. ماذا لو انشقت نافذتها ماذا لو تنفست بعضا من النور؟؟ ماذا لو هربت من أرض إلى أرض ليست تسكنها الساحرات... )... و شعار التمرد على الواقع دائما: ( إما أن تكون أو لا تكون ) و هي تبرر هذا الانعتاق بأنها: ( خمس قضتها في سجنها الأبدي وقبرها الإنسي ) و ( الجنون بعينه من يجعلها تصبر على سجنها الأبدي )...

و من جماليات السرد أن تكون نار القهر الذي اشتد سعيرها، هي ذاتها التي بعثت النور: ( كان النور الساطع من النار ما جعله يبصر تلك الأسطورة المنقوشة على جدران هذا الكهف المرعب..كانت بداية الانهيار الكون والساحرة المشعوذة وهي تأكل قلوب الفتيات ) و هي هنا تشير إلى ضرورة المواجهة غير عابئة بما ستلقاه من مصير: (إن كان لا مناص من الموت فليكن قتالا شجاعا ومواجهة حقيقية ) مواجهة شبح قد يأتي في ثوب محب: ( أشباح النهار أشد قسوة وضراوة من أشباح الليل فهم يتمثلون بمن تحبهم ) هي في جميع الأحوال لا تخشى الموت في سبيل التحرر من هذا السجن الأبدي: ( لقد ماتت قبل سنوات بالنسبة لتاريخ وجودها ) و في مشهد درامي مشوق نتابع ذلك التصوير الرائع: ( استجمعت قواها لم تنظر للخلف عليها أن تسير إلى الأمام وأن تعتلي القمة بخطوة واحدة ) ( وهنها يعجل بنهايتها ) ( الهنيهات القليلة هي من تحدد مصيرنا نترقبها بفزع وبكثير من الأمل مغموسا بالقلق )...

و على طريقة المتوقع من نهاية سعيدة مأمولة: ( تلك الفتاة وذلك الفتى هم من سيعيدوا الحياة من جديد ) إلى ( الوجوه الباردة والقلوب الميتة) التي ( لم تقدم شيئا غير مزيد من الجمود والقيعان السحيقة من الهزيمة).

و لعل الشيء الملفت هنا هو اختيار هذا العنوان (ماقبل النهاية... ) فالمواجهة الأبدية مازالت مستمرة بين ( الخير و الشر ) بين ( الجمال و القبح ) و بين (الحق و الباطل)، و النهاية مفتوحة على كافة الاحتمالات...

الرقدة الأخيرة )

يبدو أن أسلوب ( الراوي العليم ) هو الأسلوب المحبب للكاتبة حيث يتيح للغتها الشعرية، و قدرتها على السرد الحكائي، مساحة أرحب، تستعرض خلالها قدراتها على تصوير المشاعر بدقة، و التعبير عن أفكارها بتشويق و استحواذ، رغم ما يكتنف النص من رموز موحية؛ تحتاج لأكثر من قراءة لفك طلاسمها، و الوصول إلى المعنى الذي يبدو أنه انعكاس لواقع سياسي؛ استطاعت الكاتبة أن تتناوله على هذا النحو الأدبي البعيد عن المباشرة، و هو ما يحسب لها كمبدعة تعتمد اعتمادا كبيرا على ذكاء القارئ العربي.

( المرجان )

القصة هنا تتماس مع واقع تعيشه الأوساط الشعبية؛ حيث الاعتقاد في قدرات خارقة للدجال و المشعوذ، الذي هو في الماضي كان قاطعا للطريق: ( قاطع طريق يسلب المارقين فيحرمهم من قوتهم وقوت عيالهم ..وهو الذي يسرق الرجال من أحضان نساءهم وهو أشهر من سرق البوم من عشه )؛ فأضحى في الحاضر أيضا ممارسا لهذا السلوك المشين سالبا عقول و قلوب مرتاديه الذين يسعون إليه و يثقون فيه، و يعتمدون على قدراته ( الغيبية ) في أمور حياتهم، و بخاصة في مسائل الحب و الزواج، و نرى الكاتبة هنا بدافع الانفعال؛ تورد العبارة التالية، مؤكدة على حقيقة أن: ( الفرق بين أن تحب وأن تكره، هو فينا نحن دون أن تكون للغيب اليد الطولى فيه )...

هذا النهج التنويري الذي انتهجته الكاتبة في جميع القصص بلا استثناء؛ يمثل مشروعا توعويا مهما، بعيدا عن المباشرة؛ معتمدة على قدرات احترافية في تنوع أدوات السرد، بأسلوب أدبي راق، و صياغة مبدعة رائعة.

( ربما يوما ما... )

بوح ذاتي معبر عن حالة رفض لتلك العادة القميئة: ( منذ الطفولة تبدأ التسميات وقد تقرأ الفاتحة وتعقد الأفراح، أن فلانا لفلانة ) فـ ( منطق الحب مرفوض في مجتمعات عانت من شقوة الحياة، لم يكن العشق مباحا إلا بين ابن العم وابنة عمه ) و هنا تجسيد لتلك الحالة من الظلم و القهر، التي يستتبعها الهروب: ( الكثير من الصمت لن يفلح في التغيير والهرب هو اللغة التي يفهمونها ) بتلك النهاية التي لجأت إليها معلنة: ( أنا لم أكن يوما أمة ولن أكون ) لم تنته قصتها، بل بدأت رحلتها مع أمل جديد في أن تحيا في عالم آخر: ( ربما يكون أكثر رحابة من الذي أعيش فيه ربما يكون كذلك مع من أحب )

فهذا النص يدق أجراس الخطر محذرا من نتائج هذا التحكم في مصير المرأة، و يلقي باللائمة على تلك العادات و التقاليد التي تدفع بعض الإناث للهروب من عوائلهن... و في ذات الوقت تتمنى أن تفلح في توصيل رسالتها فيستجيب المجتمع لها، ليصبح أكثر تقديرا و احتراما للمرأة: ( فالمرأة يا عزيزي تستطيع أن تحمل بين أضلعها إنسانا آخر وهذا ما لا يستطيعه أحد ) و بسؤال استنكاري كاشف تُكمل: ( أرأيت كيف أتفوق عليك؟ )...

 و نحن هنا في حل من التأكيد على حقيقة ما سبق ذكره من التزام الكاتبة بمشروعها التنويري الذي تناولت فيه قضايا عديدة، مستخدمة مختلف أدوات السرد، بتناغم راق، و كأن تلك المجموعة سيمفونية أدبية متجانسة، معبرة عن إبداع حقيقي، و تمكن احترافي، و قدرة فائقة على الإقناع، و التصدي للبدع بإبداع و تميز.

 ( صاحبة الجلالة )

صياغة مطرزة بالسجع في بداية النص؛ شوقت القارئ، و دفعته لاستكمال القراءة لهذا السرد المفعم بالشجن و اجترار الذكريات، و هو سرد معبر عن أحداث 28 تشرين أول 1956 و موقف الصحافة الأردنية ( صاحبة الجلالة ) في قضية اختطاف فرنسا لزعماء الثورة الجزائريين، و المطالبة الشعبية من خلالها بمقاطعة فرنسا سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا عقابا على فعلتها... و هو الأمر الذي لم يتوقف عند هذا الحد بل امتد إلى تنظيم مظاهرات انطلقت نحو السفارة الفرنسية و إنزال العلم الفرنسي عنها، و التنديد بتلك القرصنة الفرنسية تجاه زعماء الثورة الجزائرية... إلى أن نجحت الثورة الجزائرية، و تم إعلان استقلال الجزائر 5 يوليو سنة 1962ليظل: ( تشرين أول: أول انبعاث تيار الحب في قلبي )... بل في قلب كل مناضل من أجل الحرية، و رفض الظلم و العنصرية و الاستبداد و القهر...

 ( فوضى الحواس )

يذكرنا هذا العنوان برواية للكاتبة أحلام مستغانمي تحمل ذات العنوان و فيها تكتشف الكاتبة تطابقاً بين روايتها والواقع و تتداخل الأحداث على نحو فلسفي...

و هنا نرى تداخلا أيضا بين الواقع و الخيال، الحقيقة و الحلم، أدى لحالة من: ( تلك الفوضى التي كانت فوضى للحواس ).

 ( يا مفارقي )

سرد بلسان الراوي الذاتي يفيض رومانسية؛ مشبعة بمشاعر الحب، و الإخلاص و الوفاء: ( الود ودي لو أني أبقيت رسم شفتيك على كأس حياتي المرة؛ فغدت حلوة كما أنت )، و العنوان هنا: ( يا مفارقي ) يكمله المتن: لم تفارقني ذكراك: ( كم هي قاسية تلك الأقدار التي تؤنبني وتُعمل جلدا في ذاكرتي المغلقة عليك!، لكني لم أُسقط منها شيئا كما كنت أفعل قبلا وإياك... )...

 ( الحبر القرمزي )

يكاد القارئ يلهث خلف أحداث هذه القصة المشوقة، التي تتنصر للحرية، على الظلم و القهر و الاستبداد، مهما بلغ جبروته، و كثر معاونوه، و طال أمده...  و قد وفقت الكاتبة في اختيار العنوان الذي يذكرنا برواية للكاتبة آليس وولكر المناهضة دوماً للمواقف العنصرية، و التي تم تحويل روايتها إلى فيلم سينمائي حمل ذات عنوان الرواية ( اللون القرمزي ) نال فيه سبيلبيرغ جائزة الأوسكار كأفضل مخرج عام 1986، حتى أضحى هذا اللون ( القرمزي ) رمزا للحرية، و الانعتاق من أسر العنصرية و القهر و الظلم و الاستبداد.

( الفكر الآخر )

هذا النص القصصي يغوص في أعماق النفس البشرية؛ و يصور حالة من حالات الاكتئاب، ذلك أن الإنسان بفطرته يولد كمشروع يألف و يؤلف، و لهذا يصبح: ( من البديهي أن يشعر المرء منا بأنه منبوذ عن مجتمعه أو مختلف كليا أو حتى غريب الأطوار ذلك عندما يتعرض لحادث ما أو أن يصاب بأزمة ما تغير مجرى حياته، أو مرض قد آيس الأطباء من شفائه ) و عندئذ: ( يدرك المرء منا حينها أن عليه أن يغادر أو أن يتوارى عن أعين المتطفلين )...

و في سعيها لانتشال الإنسان من شعوره بالظلم و إحساسه بعدم الرضا أوردت: ( قد لا يعني الرضا الإنصاف إذ أن الإنصاف لا يمكن أن يمنحه أحد مهما تفوق لأنه لا يملكه..و في الحقيقة فجميع المخلوقات على دناءتها تبحث عن قوى عظمى تحقق لها هذا الإنصاف )

و في ذات الوقت يحذر النص من حالة استعداء الذات والمجتمع تحت مسمى ( فكر جديد ) و هو ما يحتاج لمزيد من الوقت و الجهد لتحقيق ذلك التصالح: ( إن هذا الكائن المعجون بعذاب لم يكن له يد فيه..يحتاج أكثر من وداد فهمي ليعيده إلى نقطة ما يستوعب فيها أن حجم ما هو فيه لا يعنيه بالضرورة، ليتمكن من التصالح مع ذاته و مجتمعه بفكر لا يمكن تسميته الفكر الآخر... ).

 ( جاردينيا )

قمة التشويق و الإثارة التي أحدثها نص ينتمي لأدب الرعب، و رغم أن كتب التراث الأدبي حافلة بالأساطير المثيرة عن عالم السحر والجان، و ما وراء الطبيعة؛ إلا أن هذا النص تحديدا استطاع أن يخلص السرد من حالة الرعب إلى قمة الرومانسية بطريقة أكثر تشويقا و إثارة...

و أرى أن صوت السرد هنا ـ الذي تم من خلاله كتابة هذه القصة ـ هو صوت روائي بامتياز، و يدل دلالة قاطعة على قدرة الكاتبة على ولوج عالم الرواية بتمكن و اقتدار.

 ( شتيات المصاطب )

اعتمد هذا النص ـ شأنه شأن بعض النصوص الأخرى في المجموعة ـ على الأشياء الواقعية التي استخدمت كرموز للارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي. و القطع مع الواقع الاجتماعي القائم، و البحث عن الواقع الأفضل، و تشير السريالية إلى أنه كلما كانت الصلة بين هذين الواقعين بعيدة؛ تكون الصورة قوية و مؤثرة. رغم غموضها الذي يحتاج إلى أمرين معا: أن تتم إعادة القراءة مرة أخرى، مع محاولة نسيان ما اكتسبه القارئ من ثقافة نمطية.

 ( فقراء ولكن... )

بوح جاء بلسان الراوي العليم لحالة أشبه بالهذيان الذي تاهت فيه الفكرة المحددة وسط عبارات وصفية لم تضف جديدا للفكرة الغائمة أصلا، و كأننا أمام لوحة سريالية، تتسق مع تلك المدرسة التي شاعت بين الأدباء القائلين بتحرير السرد من المنطق، و الغوص في اللاشعور، و هو ما ظهر في بعض قصص المجموعة، و هنا كان أكثر وضوحا؛ فقد صور النص عالما عجائبيا صرفا، مما جعله مؤهلا لأن يمثل هذا الاتجاه السريالي، معتمدا على حالة الانفلات من عقال الحقيقة و الواقع محاكيا داء الهلوسة الذي يجعل المصاب يرى عشرات الصور غير الحقيقية ـ التي لا رابط بينها ـ بطريقة متسارعة نتيجة ما يعانيه من أزمة خوف و توتر و انفعال.

 ( منعرجات النسيان )

من حق الكاتبة أن تفخر بقدرتها على الحكي و زركشة نصها بفنون الوصف الأدبي المبدع، الذي طغى على المتن، طغيان إطار رائع، بداخله صورة صغيرة الحجم، لا تتناسب مع حجم الإطار؛ فعند تناول حالة حب عذري في قالب قصصي، يتوقع القارئ أبعادا درامية أكثر إثارة و تشويقا من مجرد وصف مسهب لتلك الحالة، و عنوان كشف النهاية الخائبة لهذا الحب، مع التحفظ على استخدام الكاتبة لعبارات مقززة في بداية النص أراها غير مبررة.   

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كلمة أخيرة

          إن هذه المجموعة القصصية (جاردينيا) تتميز بقدرة القاصة على كشف الأقنعة التي يتخفى وراءها تجار الحروب و الدجالون من خلال السرد الاحترافي بأدوات و أساليب مختلفة، فضلا عن تمكنها و تميزها في زركشة نصوصها بفنون الوصف الأدبي المبدع؛ أمر يستحق الإشادة و التقدير و الاحترام...