ثنائية
(الحضور والغياب) من منظور شعري
بقلم/ مجدي شلبي (*)
وعلى الإنسان أن يستخدم تلك الأداة ـ التي وهبها لنا الله ـ للتمييز بين: (الفجور والتقوى)، (الخير والشر)، (الجمال والقبح)، (العدل والظلم)، (الحق والباطل)، (المدح والذم)، (الحب والبغض)، (الفرح والحزن)، (البعد والقرب)... إلخ.
وهي الثنائيات التي يتخذها الأدباء والشعراء موضوعا لإبداعاتهم ـ مع ضرورة
الإشارة إلى حقيقة أن كل إنسان يعتقد أنه هو الطرف الإيجابي في تلك المعادلة
الثنائية!...
وسوف يقتصر حديثنا الآن عن ثنائية (الحضور والغياب/ الاقتراب والابتعاد) كما
صورها بعض كبار الشعراء في أبياتهم الشعرية، التي تتسم بالحكمة والبلاغة، وتعبر عن
تباريح العشق العاطفي والديني أيضا؛ يقول الشاعر البوصيري:
حتى دَنا منه النبيُّ وَمَنْ دَنا *** منه نأى عن قلبه التبريحُ
ويقول الشاعر عبدالرحيم البرعي:
جعلتكَ يا رسولَ اللهِ مالي *** و مأمولي إذا حضرَ الغريمُ
وقد ورد في ثنائية (الدين والدنيا) قول الشاعر جرير:
فَلا هُوْ مِنْ الدّنْيَا مُضِيعٌ نَصِيبَهُ، *** و لا عرضُ الدنيا عنِ
الدينِ شاغله
فيرد الشاعر أبو العتاهية؛ قائلا:
ما لي رَأيتُ بَني الدّنيا قدِ اقتَتَلُوا، *** كأنّما هذِهِ الدّنْيا
لَهُمْ عُرُسُ
فيقول الشاعر المتنبي:
فَلا مَجْدَ في الدّنْيَا لمَنْ قَلّ مَالُهُ *** وَلا مالَ في الدّنيا
لمَنْ قَلّ مَجدُهُ
فينتفض الشاعر أبوالعلاء المعري؛ قائلا:
حتى إذا حَضَرَ الحِمامُ، تَبَيّنوا *** أنّ الذي فَعَلوهُ جَهلٌ كلّه
ويضيف الشاعر أبو العتاهية:
أيا باني الدُّنْيَا لغيرِكَ تبْتَنِي *** وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا
لغيرِكَ تَجْمَعُ
ويؤكد المعنى قول الشاعر أحمد محرم:
يبغون دين المال في أربابه *** والدين دين الواحد القهار
ويعيدنا إلى ثنائية (الحضور والغياب) قول الشاعر المتنبي:
نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ *** جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ
يَتَفَرّقُوا
ويضيف الشاعر علي بن الجهم:
هِيَ الأَيّامُ تَجمَعُ بَعدَ بُعدٍ *** وَتَفجَعُ بَعدَ قُربٍ وَالتِئامِ
ويقول الشاعر أحمد شوقي:
وإذا فاتك التفات إلى الماضي *** فقد غاب عنك وجه التأسي
ويقول الشاعر الباخرزي:
نأى من أحبُّ فلي مدمعٌ *** كمـا انْتَثَـر اللؤلوُ المُختزَنْ
ويقول الشاعر بدوي الجبل:
غاب عند الثرى أحبّاء قلبي *** فلثرى وحده الحبيب الخليل
ويقدم الشاعر جبران خليل جبران العزاء لمن فقدوا حبيبا:
يا من نعزيه عن فقد الحبيب وما *** نأى الحبيب الذي من ربه قربا
ويقول الشاعر الأحوص:
فلا تحسبي أنَّ الغريبَ الَّذي نأى *** ولكنَّ منْ تنأينَ عنهُ غريبُ
ونزيد من تباريح الشعر أبياتا؛ يقول الشاعر الأبيوردي:
فؤادٌ دنا منهُ الغرامُ جريحُ *** وَجَفْنٌ نَأَى عَنْهُ الرُّقادُ قَريحُ
ويقول الشاعر ابن دريد:
فيبكي إنْ نأى شوقاً إليهمْ *** ويبكي إنْ دنوا خوفَ الفراقِ
ويقول الشاعر البحتري:
إذا غِبْتَ عن أرْضٍ، وَيَمّمتَ غَيرَها، *** فقَد غَابَ عَنها شَمسُها،
وَهِلالُها
ويقول الشاعر جبران خليل جبران:
فإذا دنا فالشمس قد غربت *** وطفا على وجه الطلى قمر
ويقول الشاعر السري الرفاء:
فإذا دَنا جعلَ الزِّيارَة َ شأنَه؛ *** و إذا نأَى بعثَ الخَيالَ
الطَّارِقا
ويقول الشاعر جبران خليل جبران:
باق وإن هو غاب ساطع نوره *** حتى يكاد يخال ليس بغائب
ويقول الشاعر أحمد شوقي:
غابَ عن أَعينهم، لكنّه *** ماثلٌ في كُلِّ قلبٍ، لم يَغِب
ويقول الشاعر البرعي:
بعدتمْ ولمْ يبعدْ عنِ القلبِ حبكمْ *** و غبتمْ وأنتمْ في الفؤادِ حضورُ
ورغم أن هذا يأتي نافيا ما
ترسخ في الأذهان من مثل: (البعيد عن العين؛ بعيد عن القلب)!، إلا أن الشاعر أبو
نواس في نهاية قصيدته (لقد أصْبحْتُ ذا كَرْبِ) خالف قول شوقي والبرعي، وتبنى
المثل حرفيا؛ فقال:
ومن غابَ عن العينِ، *** فقدْ غابَ عنِ القَلْبِ
وهو قول مردود عليه؛ فها هو علي
بن أبي طالب في رثاء فاطمة الزهراء؛ يقول:
حبيبٌ باتَ يأْسِرُني الحبيبُ *** وَمَا لِسِوَاهُ في قَلْبِي نَصِيْبُ
حَبِيْبٌ غَاْبَ عَنْ عَيْنِي وَجِسْمِي *** وَعَنْ قَلْبِي حَبِيْبِي لا
يَغِيْبُ
والشاعر ابن الرومي يأتي مؤكدا هذا المعنى بقوله:
وما غاب عن مكنون صدرك غائب *** وإن غاب عن عينيك يا بن الأكارم
ويضيف الشاعر المتنبي:
من غاب عن العين فالقلب مسكنه *** ومن سكن القلب فكيف العين تنساه
ويصف الشاعر عفيف الدين التلمساني تلك الحالة التي أمسى عليها متعجبا فيقول:
وَيَبِيتُ أَدْنَى لِلحَشَا مِنْ مُهْجَتِي *** وَأَبِيتُ أَشْكُو مِنْهُ
فَرْطَ بُعَادِ
ويبدو أن الشاعر الخُبز أَرزي، يبيت هو الآخر شاكبا، لكنها شكوى مزدوجة؛
فيقول:
كانوا يخوضون في لومي فساعدني *** وصلُ الحبيب فخاضوا اليوم في حسدي
ما غاب عنّيَ بل غاب السرورُ به *** فصرت أبكي فقيداً غير مفتَقَدِ
فيأتي الشاعر قيس بن الملوح ليهدئ من روعه، ويطمئن نفسه؛ فيقول:
فيا نفس صبراً لست والله فاعلمي *** بِأوَّلِ نَفْسٍ غابَ عَنْها حَبِيبُها
يقول الشاعر عنترة بن شداد:
ونصيبي منَ الحبيبِ بعادٌ *** وَلغيْري الدُّنوُّ منهُ نَصيبُ
يقول الشاعر بدوي الجبل:
كأنّ طباع الغيد فيه فإن دنا *** قليلا. نأى حتّى لقد عزّ مطلبا
فيوضح الشاعر ابن الرومي الفرق بين الصد دلالا، والصد بعادا واجتنابا؛ فيقول:
ولم يصدُدنَ من خَفَرٍ ودَلٍّ *** ولكن من بِعادٍ واجتنابِ
فيأتي قول الشاعر بدوي الجبل مضيفا:
شارك القوم كلّهم في أذانا *** و من القوم غيّب وحضور
وهنا يبرز سؤال: كيف بمن لم يحضر معهم أن علم بما كان منهم؟!؛ فيجيب الشاعر
البرعي:
فراسة ُ مؤمنٍ بحضورِ قلبٍ *** يشاهدُ فيِ ابتعادٍ واقترابِ
فيذم الشاعر حيدر بن سليمان الحلي هؤلاء بقوله:
وأنتم حضور ولَم تَغضبوا *** فيا بؤس للملأ الحاضر
ويصم الشاعر ابن دارج القسطلي هؤلاء بقبيح الصفات؛ فيقول:
الغدر أقبح ما تزود *** من دنا أو من نأى
يقول الشاعر أبوالعلاء المعري:
لم يقدروا أن يُلاقُوهُ بسَيّئَةٍ *** من الكَلامٍ، فلمّا غابَ عابُوه
فيأتي الشاعر إبراهيم عبد القادر المازني متبنيا المثل القائل (الصراحة؛
راحة)؛ فيقول:
إن خيراً من التصنع في القر *** ب بعادٌ على جفاء وصد
ويضيف الشاعر بشار بن برد:
باعد أخاك ببعده *** وإذا نأى شبراً فزده
وقد أوضح في بيت آخر أن مثل هؤلاء:
نَازِعِينَ يَداً خَانُوا فَقُلْتُ لَهُمْ: *** بعدا وسحقاً وكانوا أهل
إبعاد
غير أن للشاعر عبد الصمد بن المعذل رأي مخالف؛ حيث يقول:
قرّب صديقك ما نأَى *** وزِد التقارب واستزدْهُ
فيعترض الشاعر ابن المعتز؛ قائلا:
لكنهُ قاسٍ كذوبٌ وعدهُ، *** نائي المَزارِ على دُنُوّ جِوارِه
ويضيف الشاعر كشاجم:
وَتَرَاهُ يُكْرِمُ مَنْ نَأَى *** عنهُ ويُغفِلُ من حَضَرْ
ويؤكد المعنى قول الشاعر أبو تمام:
رأيتك من محبّك ذا بعادٍ *** وممَّنْ لا يُحِبُّكَ ذَا دُنُو
ويضم الشاعر ابن دريد صوته إليهم قائلا:
دَنَوْتُ فَكَافَى بِالدُّنُوِّ تَبَاعُداً *** فحتى متى أدنو إليهِ ويبعدُ
فيتعجب الشاعر أبو تمام؛ قائلا:
فعلامَ الصدودُ في غيرِ جرمٍ *** و الصدودُ الفراقُ قبلَ الفراقِ
فيتساءل الشاعر الهبل سؤالا استنكاريا:
أيعود لي بعد الصدود تواصل *** ويعاد لي بعد البعاد عناق!
فيتعاطف معه الشاعر الشريف الرضي:
لك الله هل بعد الصدود تعطف *** وَهَل بَعدَ رَيعَانِ البعادِ تَداني؟!
فيلقي الشاعر أبو نواس بحكمته:
رَأيتُ دنوّ الدّارِ ليسَ بنافعٍ، *** إذا كانَ ما بينَ القلوبِ بعيدُ
غير أننا نفاجأ بالشاعر صفي الدين الحلي وهو يستعطف الحبيب؛ فيقول له:
عودتني صفوَ الودادِ، فعدْ به، *** واصبِرْ لعادَتكَ التي عَوّدتَني
ويشاركه الشاعر أسامة بن منقذ الرغبة في التلاقي؛ فيقول:
وأقتَلُ أدْوائِى بِعادُ أحَّبتِي *** وداء التنائي ما علمت قتول
ويقول:
أعجب من تشتيتنا بعد ألفة *** ومن نقلنا بعد الدنو إلى البعد
ويرى أن:
قرب الدار خير من بعاد *** ورؤيا العين أشفى للصدور
يقول الشاعر الفرزدق:
إنْ أسْتَطِعْ مِنْكَ الدّنُوّ، فإنّني *** سَأدْنُو بِأشْلاءِ الأسِيرِ
المُقَيَّدِ
ويضيف الشاعر مهيار الديلمي:
علَّ الذي استرهنتنى بحبّه *** ثمّ نأى عنى أن يفكَّني
ويصور الشاعر إبراهيم ناجي حالة التلاقي؛ بدعوته:
هاتِ أسعدْني وَدَعْني أسْعدُكْ *** قَدْ دَنا بعدَ التَّنائي موردُكْ
ويضيف الشاعر ابن نباتة المصري:
و قربني جنابك بعد بعدٍ *** ونهنه حاسدي بعد الجماح
ويقول الشاعر الشريف الرضي:
لا تَبْعَدَنّ وَأينَ قُرْبُكَ بَعدَهَا *** إنّ المَنَايَا غَايَة ُ
الأبْعَادِ
ويوضح الشاعر عماد الدين الأصبهاني أسباب بعاده:
نأى بي عنكم عدو لدود *** ودهر خؤون وحظ عثور
وهنا يعبر الشاعر جبران خليل جبران عن سعادته:
ويا فرحا بعد الغياب بعائد *** دنا فغدا منا بمرأى وملمس
ويصف الشاعر البحتري ذلك اللقاء:
كأنّما القَيْظُ وَلّى بَعدَ جِيئَتِهِ، *** أوِ الرّبيعُ دَنَا مِنْ
بَعْدِ مَا بَعَدا
وأختتم تلك الإطلالة بقول الشاعر أحمد شوقي:
لو غاب كل عزيز عنه غيبتنا *** لم يأته الشوق إلا من نواحينا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو نقابة اتحاد كتاب مصر