الاثنين، 24 مارس 2014

ثنائية (الحضور والغياب) من منظور شعري ـ بقلم: مجدي شلبي

ثنائية (الحضور والغياب) من منظور شعري
بقلم/ مجدي شلبي (*)
       إن التكوين الثنائي للإنسان (روح وجسد)، يستتبعه (الميلاد والوفاة)، وحتى الميلاد محكوم بثنائية العلاقة بين (امرأة ورجل)، والوفاة متبوعة بـ(جنة ونار)؛ ومن ثم فرحلتنا في الحياة تقع بين ثنائيات، يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية 7 و8 من سورة الشمس: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها).       
وعلى الإنسان أن يستخدم تلك الأداة ـ التي وهبها لنا الله ـ للتمييز بين: (الفجور والتقوى)، (الخير والشر)، (الجمال والقبح)، (العدل والظلم)، (الحق والباطل)، (المدح والذم)، (الحب والبغض)، (الفرح والحزن)، (البعد والقرب)... إلخ.
       وهي الثنائيات التي يتخذها الأدباء والشعراء موضوعا لإبداعاتهم ـ مع ضرورة الإشارة إلى حقيقة أن كل إنسان يعتقد أنه هو الطرف الإيجابي في تلك المعادلة الثنائية!...
       وسوف يقتصر حديثنا الآن عن ثنائية (الحضور والغياب/ الاقتراب والابتعاد) كما صورها بعض كبار الشعراء في أبياتهم الشعرية، التي تتسم بالحكمة والبلاغة، وتعبر عن تباريح العشق العاطفي والديني أيضا؛ يقول الشاعر البوصيري:
حتى دَنا منه النبيُّ وَمَنْ دَنا *** منه نأى عن قلبه التبريحُ
ويقول الشاعر عبدالرحيم البرعي:
جعلتكَ يا رسولَ اللهِ مالي *** و مأمولي إذا حضرَ الغريمُ
وقد ورد في ثنائية (الدين والدنيا) قول الشاعر جرير:
فَلا هُوْ مِنْ الدّنْيَا مُضِيعٌ نَصِيبَهُ، *** و لا عرضُ الدنيا عنِ الدينِ شاغله
فيرد الشاعر أبو العتاهية؛ قائلا:
ما لي رَأيتُ بَني الدّنيا قدِ اقتَتَلُوا، *** كأنّما هذِهِ الدّنْيا لَهُمْ عُرُسُ
فيقول الشاعر المتنبي:
فَلا مَجْدَ في الدّنْيَا لمَنْ قَلّ مَالُهُ *** وَلا مالَ في الدّنيا لمَنْ قَلّ مَجدُهُ
فينتفض الشاعر أبوالعلاء المعري؛ قائلا:
حتى إذا حَضَرَ الحِمامُ، تَبَيّنوا *** أنّ الذي فَعَلوهُ جَهلٌ كلّه
ويضيف الشاعر أبو العتاهية:
أيا باني الدُّنْيَا لغيرِكَ تبْتَنِي *** وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لغيرِكَ تَجْمَعُ
ويؤكد المعنى قول الشاعر أحمد محرم:
يبغون دين المال في أربابه *** والدين دين الواحد القهار
ويعيدنا إلى ثنائية (الحضور والغياب) قول الشاعر المتنبي:
نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ *** جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا
ويضيف الشاعر علي بن الجهم:
هِيَ الأَيّامُ تَجمَعُ بَعدَ بُعدٍ *** وَتَفجَعُ بَعدَ قُربٍ وَالتِئامِ
ويقول الشاعر أحمد شوقي:
وإذا فاتك التفات إلى الماضي *** فقد غاب عنك وجه التأسي
ويقول الشاعر الباخرزي:
نأى من أحبُّ فلي مدمعٌ *** كمـا انْتَثَـر اللؤلوُ المُختزَنْ
ويقول الشاعر بدوي الجبل:
غاب عند الثرى أحبّاء قلبي *** فلثرى وحده الحبيب الخليل
ويقدم الشاعر جبران خليل جبران العزاء لمن فقدوا حبيبا:
يا من نعزيه عن فقد الحبيب وما *** نأى الحبيب الذي من ربه قربا
ويقول الشاعر الأحوص:
فلا تحسبي أنَّ الغريبَ الَّذي نأى *** ولكنَّ منْ تنأينَ عنهُ غريبُ
ونزيد من تباريح الشعر أبياتا؛ يقول الشاعر الأبيوردي:
فؤادٌ دنا منهُ الغرامُ جريحُ *** وَجَفْنٌ نَأَى عَنْهُ الرُّقادُ قَريحُ
ويقول الشاعر ابن دريد:
فيبكي إنْ نأى شوقاً إليهمْ *** ويبكي إنْ دنوا خوفَ الفراقِ
ويقول الشاعر البحتري:
إذا غِبْتَ عن أرْضٍ، وَيَمّمتَ غَيرَها، *** فقَد غَابَ عَنها شَمسُها، وَهِلالُها
ويقول الشاعر جبران خليل جبران:
فإذا دنا فالشمس قد غربت *** وطفا على وجه الطلى قمر
ويقول الشاعر السري الرفاء:
فإذا دَنا جعلَ الزِّيارَة َ شأنَه؛ *** و إذا نأَى بعثَ الخَيالَ الطَّارِقا
ويقول الشاعر جبران خليل جبران:
باق وإن هو غاب ساطع نوره *** حتى يكاد يخال ليس بغائب
ويقول الشاعر أحمد شوقي:
غابَ عن أَعينهم، لكنّه *** ماثلٌ في كُلِّ قلبٍ، لم يَغِب
ويقول الشاعر البرعي:
بعدتمْ ولمْ يبعدْ عنِ القلبِ حبكمْ *** و غبتمْ وأنتمْ في الفؤادِ حضورُ
       ورغم أن هذا يأتي نافيا ما ترسخ في الأذهان من مثل: (البعيد عن العين؛ بعيد عن القلب)!، إلا أن الشاعر أبو نواس في نهاية قصيدته (لقد أصْبحْتُ ذا كَرْبِ) خالف قول شوقي والبرعي، وتبنى المثل حرفيا؛ فقال:
ومن غابَ عن العينِ، *** فقدْ غابَ عنِ القَلْبِ
       وهو قول مردود عليه؛ فها هو علي بن أبي طالب في رثاء فاطمة الزهراء؛ يقول:
حبيبٌ باتَ يأْسِرُني الحبيبُ *** وَمَا لِسِوَاهُ في قَلْبِي نَصِيْبُ
حَبِيْبٌ غَاْبَ عَنْ عَيْنِي وَجِسْمِي *** وَعَنْ قَلْبِي حَبِيْبِي لا يَغِيْبُ
والشاعر ابن الرومي يأتي مؤكدا هذا المعنى بقوله:
وما غاب عن مكنون صدرك غائب *** وإن غاب عن عينيك يا بن الأكارم
ويضيف الشاعر المتنبي:
من غاب عن العين فالقلب مسكنه *** ومن سكن القلب فكيف العين تنساه
ويصف الشاعر عفيف الدين التلمساني تلك الحالة التي أمسى عليها متعجبا فيقول:
وَيَبِيتُ أَدْنَى لِلحَشَا مِنْ مُهْجَتِي *** وَأَبِيتُ أَشْكُو مِنْهُ فَرْطَ بُعَادِ
ويبدو أن الشاعر الخُبز أَرزي، يبيت هو الآخر شاكبا، لكنها شكوى مزدوجة؛ فيقول:
كانوا يخوضون في لومي فساعدني *** وصلُ الحبيب فخاضوا اليوم في حسدي
ما غاب عنّيَ بل غاب السرورُ به *** فصرت أبكي فقيداً غير مفتَقَدِ
فيأتي الشاعر قيس بن الملوح ليهدئ من روعه، ويطمئن نفسه؛ فيقول:
فيا نفس صبراً لست والله فاعلمي *** بِأوَّلِ نَفْسٍ غابَ عَنْها حَبِيبُها
يقول الشاعر عنترة بن شداد:
ونصيبي منَ الحبيبِ بعادٌ *** وَلغيْري الدُّنوُّ منهُ نَصيبُ
يقول الشاعر بدوي الجبل:
كأنّ طباع الغيد فيه فإن دنا *** قليلا. نأى حتّى لقد عزّ مطلبا
فيوضح الشاعر ابن الرومي الفرق بين الصد دلالا، والصد بعادا واجتنابا؛ فيقول:
ولم يصدُدنَ من خَفَرٍ ودَلٍّ *** ولكن من بِعادٍ واجتنابِ
فيأتي قول الشاعر بدوي الجبل مضيفا:
شارك القوم كلّهم في أذانا *** و من القوم غيّب وحضور
وهنا يبرز سؤال: كيف بمن لم يحضر معهم أن علم بما كان منهم؟!؛ فيجيب الشاعر البرعي:
فراسة ُ مؤمنٍ بحضورِ قلبٍ *** يشاهدُ فيِ ابتعادٍ واقترابِ
فيذم الشاعر حيدر بن سليمان الحلي هؤلاء بقوله:
وأنتم حضور ولَم تَغضبوا *** فيا بؤس للملأ الحاضر
ويصم الشاعر ابن دارج القسطلي هؤلاء بقبيح الصفات؛ فيقول:
الغدر أقبح ما تزود *** من دنا أو من نأى
يقول الشاعر أبوالعلاء المعري:
لم يقدروا أن يُلاقُوهُ بسَيّئَةٍ *** من الكَلامٍ، فلمّا غابَ عابُوه
فيأتي الشاعر إبراهيم عبد القادر المازني متبنيا المثل القائل (الصراحة؛ راحة)؛ فيقول:
إن خيراً من التصنع في القر *** ب بعادٌ على جفاء وصد
ويضيف الشاعر بشار بن برد:
باعد أخاك ببعده *** وإذا نأى شبراً فزده
وقد أوضح في بيت آخر أن مثل هؤلاء:
نَازِعِينَ يَداً خَانُوا فَقُلْتُ لَهُمْ: *** بعدا وسحقاً وكانوا أهل إبعاد
غير أن للشاعر عبد الصمد بن المعذل رأي مخالف؛ حيث يقول:
قرّب صديقك ما نأَى *** وزِد التقارب واستزدْهُ
فيعترض الشاعر ابن المعتز؛ قائلا:
لكنهُ قاسٍ كذوبٌ وعدهُ، *** نائي المَزارِ على دُنُوّ جِوارِه
ويضيف الشاعر كشاجم:
وَتَرَاهُ يُكْرِمُ مَنْ نَأَى *** عنهُ ويُغفِلُ من حَضَرْ
ويؤكد المعنى قول الشاعر أبو تمام:
رأيتك من محبّك ذا بعادٍ *** وممَّنْ لا يُحِبُّكَ ذَا دُنُو
ويضم الشاعر ابن دريد صوته إليهم قائلا:
دَنَوْتُ فَكَافَى بِالدُّنُوِّ تَبَاعُداً *** فحتى متى أدنو إليهِ ويبعدُ
فيتعجب الشاعر أبو تمام؛ قائلا:
فعلامَ الصدودُ في غيرِ جرمٍ *** و الصدودُ الفراقُ قبلَ الفراقِ
فيتساءل الشاعر الهبل سؤالا استنكاريا:
أيعود لي بعد الصدود تواصل *** ويعاد لي بعد البعاد عناق!
فيتعاطف معه الشاعر الشريف الرضي:
لك الله هل بعد الصدود تعطف *** وَهَل بَعدَ رَيعَانِ البعادِ تَداني؟!
فيلقي الشاعر أبو نواس بحكمته:
رَأيتُ دنوّ الدّارِ ليسَ بنافعٍ، *** إذا كانَ ما بينَ القلوبِ بعيدُ
غير أننا نفاجأ بالشاعر صفي الدين الحلي وهو يستعطف الحبيب؛ فيقول له:
عودتني صفوَ الودادِ، فعدْ به، *** واصبِرْ لعادَتكَ التي عَوّدتَني
ويشاركه الشاعر أسامة بن منقذ الرغبة في التلاقي؛ فيقول:
وأقتَلُ أدْوائِى بِعادُ أحَّبتِي *** وداء التنائي ما علمت قتول
ويقول: 
أعجب من تشتيتنا بعد ألفة *** ومن نقلنا بعد الدنو إلى البعد
ويرى أن:
قرب الدار خير من بعاد *** ورؤيا العين أشفى للصدور
يقول الشاعر الفرزدق:
إنْ أسْتَطِعْ مِنْكَ الدّنُوّ، فإنّني *** سَأدْنُو بِأشْلاءِ الأسِيرِ المُقَيَّدِ
ويضيف الشاعر مهيار الديلمي:
علَّ الذي استرهنتنى بحبّه *** ثمّ نأى عنى أن يفكَّني
ويصور الشاعر إبراهيم ناجي حالة التلاقي؛ بدعوته:
هاتِ أسعدْني وَدَعْني أسْعدُكْ *** قَدْ دَنا بعدَ التَّنائي موردُكْ
ويضيف الشاعر ابن نباتة المصري:
و قربني جنابك بعد بعدٍ *** ونهنه حاسدي بعد الجماح
ويقول الشاعر الشريف الرضي:
لا تَبْعَدَنّ وَأينَ قُرْبُكَ بَعدَهَا *** إنّ المَنَايَا غَايَة ُ الأبْعَادِ
ويوضح الشاعر عماد الدين الأصبهاني أسباب بعاده:
نأى بي عنكم عدو لدود *** ودهر خؤون وحظ عثور
وهنا يعبر الشاعر جبران خليل جبران عن سعادته:
ويا فرحا بعد الغياب بعائد *** دنا فغدا منا بمرأى وملمس
ويصف الشاعر البحتري ذلك اللقاء:
كأنّما القَيْظُ وَلّى بَعدَ جِيئَتِهِ، *** أوِ الرّبيعُ دَنَا مِنْ بَعْدِ مَا بَعَدا
وأختتم تلك الإطلالة بقول الشاعر أحمد شوقي:
لو غاب كل عزيز عنه غيبتنا *** لم يأته الشوق إلا من نواحينا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) عضو نقابة اتحاد كتاب مصر